
تُعدّ التنمية من أكثر المفاهيم تداولًا في السياسات العمومية، لكنها في الوقت ذاته من أكثرها غموضًا وإثارة للجدل. ويزداد هذا الغموض حين تقترن التنمية بأدوات تقنية، يُفترض أنها محايدة، في حين قد تكون محمّلة برهانات سياسية وثقافية عميقة. من بين هذه الأدوات، تحظى مصفوفة الإطار المنطقي بمكانة مركزية في تخطيط وتقييم المشاريع التنموية، خاصة في دول الجنوب.
لكن السؤال الجوهري الذي يستحق الطرح هو:
هل تُعدّ هذه المصفوفة أداة تقنية محايدة لتحقيق النجاعة، أم أنها تمثل وسيلة ناعمة لإعادة إنتاج التبعية؟
وفي هذا السياق، تطرح هذه المقالة مقاربة نقدية مزدوجة: من جهة، تقدم المصفوفة بوصفها أداة لتدبير المشاريع وفق منطق واضح ومترابط؛ ومن جهة أخرى، تستدعي تحليلًا معرفيًا/سياديًا يفكك خلفيات استخدامها في الدول النامية.
أولًا: التنمية – من النمو الاقتصادي إلى الانفتاح كقيمة حضارية
تراكمت عبر العقود تعريفات متعددة لمفهوم التنمية، تعكس اختلاف المقاربات والنماذج المرجعية:
• حسب والت روستو (W. Rostow)، تُختزل التنمية في المرور عبر مراحل النمو الاقتصادي، من “المجتمع التقليدي” إلى “مرحلة الاستهلاك الوفير”.
• أما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، فيُعرّف التنمية بأنها “توسيع خيارات الإنسان”، ويؤطرها بثلاثة أبعاد: التعليم، الصحة، والدخل.
• بينما ترى لجنة برونتلاند (1987) أن التنمية المستدامة هي تلك التي “تلبي حاجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة”.
غير أن هذه التعريفات، على تنوعها، تبقى رهينة نماذج القياس المعياري. وفي هذا السياق، نقترح رؤية بديلة تنظر إلى التنمية باعتبارها انفتاحًا على الآخر، على المستقبل، وعلى إمكانات الذات الجماعية. فـ”Développement” من حيث الاشتقاق اللغوي، تعني خلع الغلاف (enveloppe). بناءً عليه، يمكن القول إن:
كل انفتاح هو تنمية، وكل انغلاق هو نكوص حضاري.
فالتنمية لا تُقاس فقط بما ننتجه، بل أيضًا بكيفية تفاعلنا مع المعرفة، والاختلاف، والزمن الآتي.
ثانيًا: مصفوفة الإطار المنطقي – بين الدقة التقنية وغياب البعد القيمي
تعريفها ووظائفها:
مصفوفة الإطار المنطقي هي أداة تحليل وتخطيط وتقييم تُستخدم لضبط مشاريع التنمية، وتقوم على منطق سببي هرمي يتدرج من الأثر الاستراتيجي إلى الأنشطة اليومية. وتتكون من أربعة مستويات مترابطة:
1. الهدف العام: التغيير البنيوي طويل الأمد (مثال: تقليص نسب الأمية).
2. الهدف الخاص: النتيجة المباشرة المتوقعة عند انتهاء المشروع (مثال: تحسين أداء المؤسسات التربوية).
3. النتائج: مخرجات ملموسة (مثال: إعداد دلائل بيداغوجية، تكوين الموارد البشرية).
4. الأنشطة: العمليات المنجزة لتحقيق النتائج (مثال: تنظيم ورشات، إجراء دراسات).
كل مستوى يرتبط بمؤشرات كمية ونوعية، وآليات تحقق، وافتراضات خارجية. هذه البنية تجعل من المصفوفة أداة فعّالة لضمان الانسجام الداخلي لأي مشروع، وتسمح بمتابعته وتقييمه بدقة.
حدودها:
غير أن الطابع الصارم والشكلي لهذه الأداة قد يُخفي أبعادًا استراتيجية عميقة. فهي تُجبر المشاريع على الانضباط لمصفوفة جاهزة، ما قد يؤدي إلى اختزال الواقع، وتغليف ديناميّاته الغنية ضمن نماذج معيارية “خارجية”.
وهنا يبرز التساؤل الفلسفي:
هل التخطيط بمصفوفة غربية هو تعبير عن الانفتاح، أم هو شكل جديد من “التغليف” (enveloppement) المعرفي والإداري؟
ثالثًا: موقع المصفوفة في الدول المتقدمة – أداة سيادية ضمن منظومة تخطيط متعددة
في الدول الصناعية، تُستخدم المصفوفة في إطار شامل من أدوات التخطيط والتقييم، تشمل:
• التخطيط الاستراتيجي طويل المدى،
• نظريات التغيير
• أدوات النمذجة والمحاكاة،
• تقنيات الذكاء الاصطناعي.
كما أنها تُستخدم اختيارًا، لا إملاءً، وتخضع للنقاش والتكييف المحلي، مما يمنحها وظيفة تدبيرية مرنة تتكامل مع باقي أدوات الحكم الرشيد.
رابعًا: المصفوفة في دول الجنوب – أداة تقنية للتبعية
على النقيض من ذلك، تُستخدم مصفوفة الإطار المنطقي في الدول النامية في سياقات غالبًا ما تكون غير سيادية. فهي تُفرض من طرف المانحين الدوليين، وتُشترط لاعتماد المشاريع، مثل:
• البنك الدولي،
• الاتحاد الأوروبي،
• الوكالة الأمريكية للتنمية (USAID)،
• التعاون الألماني (GIZ)،
• الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD).
هذه المؤسسات لا تكتفي بتمويل المشاريع، بل تُحدد أدوات التفكير والتنفيذ والتقييم، مما يُحوّل المصفوفة إلى أداة مراقبة ناعمة، تُضبط بها “النجاعة” وفق مؤشرات خارجية، غالبًا ما تُهمل السياقات المحلية.
وعليه، تصبح المصفوفة أداة إدارة تقنية لا تُنتج المعرفة المحلية، بل تستهلك وصفات جاهزة، تُعيد إنتاج الهشاشة بدل تجاوزها.
خامسًا: نحو سيادة معرفية في أدوات التخطيط
لا تكمن الإشكالية في المصفوفة في ذاتها، بل في الشروط التي تحكم استخدامها. فهي تتحول إلى أداة هيمنة حين يُسلب المجتمع المحلي حق تعريف الأهداف، واختيار المؤشرات، وتحديد معايير النجاح.
وإذا ما اعتمدنا التصور القائل بأن التنمية هي فعل انفتاح، فإن شرط تحققها هو تحرير أدوات التخطيط من القوالب المعيارية المفروضة، وإعادة توليفها في ضوء الخصوصيات المحلية.
ليست التنمية ما نُخطط له فحسب، بل هي ما نملك سيادة التفكير فيه.
نحو تخطيط مُتحرر لا تابع
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن المصفوفة تُجسّد إحدى المفارقات الكبرى في مشاريع التنمية: فهي أداة واعدة من حيث الشكل، لكنها قد تتحول إلى قيد ناعم من حيث الجوهر.
ولهذا، فإن إعادة السيادة على أدوات التخطيط شرط أساسي لأي مشروع تنموي حقيقي.
فالتنمية ليست مجرد مخرجات قابلة للقياس، بل هي مسار فكري، ثقافي، وسياسي، يُعيد تشكيل العلاقة بين الذات والعالم.
وكل انفتاح واعٍ على أدواته… هو الخطوة الأولى نحو تنمية متحررة.