
يُطرح مفهوم “العقل المغربي” بوصفه مدخلاً لفهم الذات الجماعية للمغاربة، لا فقط في تمظهراتهم السلوكية واليومية، بل في كيفية إدراكهم للعالم، وتمثلهم للسلطة، وتنظيمهم للعلاقات الاجتماعية، وتفاعلهم مع المقدس، ومع مفاهيم الحداثة والديمقراطية. إننا لا نتحدث هنا عن “ذكاء” أو “غباء” بيولوجي، بل عن بنية ذهنية ثقافية تكونت عبر قرون، شكلها التاريخ والجغرافيا والدين والمخزن، وتعيد إنتاج نفسها باستمرار.
تثير محاولة سبر أغوار هذا “العقل” أسئلة ملحّة: هل يتمتع العقل المغربي بخصوصيات تميّزه عن غيره؟ كيف تشكلت هذه الخصوصيات؟ وهل كانت هذه الخصوصيات عاملَ قوة، أم سبباً لتعطيل الانتقال الديمقراطي والتنمية؟ وهل نحن أمام عقل قابل للتحول، أم عقل يُعيد إنتاج ذاته عبر آليات مضمرة ومُعقدة؟
أولاً: في مفهوم “العقل المغربي”
العقل في الاصطلاح الفلسفي والأنثروبولوجي، ليس ملكة بيولوجية فحسب، بل منظومة معرفية ونفسية تتجسد في نمط التفكير الجماعي، وتشكل مرآةً للذاكرة الثقافية. أما “العقل المغربي” فمفهوم إشكالي يحيل على منظومة مركّبة، ساهم في بنائها الأديان (الإسلام وغيره)، والتصوف، والفقه المالكي، والبنية القبلية، والمخزن كجهاز رمزي ومادي للضبط والسيطرة.
العقل المغربي تتقاذفه رياح الشمال والجنوب وما وصله من الشرق، كما يمكن أن نستشفه من ممارسات الناس وتمثلاتهم، هو ليس وحدة صلبة، بل هو عقل متعدد، متناقض، يوفق بين الأضداد: بين الحداثة والتقليد، بين التفكير السحر ي والديني وشيء من التفكير العلمي، بين الخضوع والمراوغة. إنه عقل “توفيقي”، يحاول التكيف مع الضغوط دون قطيعة، وغالباً ما يجد لنفسه مهرباً في “التبركيك” أو “النكتة” أو “المشي جنب الحيط”.
ثانياً: سمات العقل المغربي في المعيش والتاريخ
1. العقل المخزني:
تشكل المخزن منذ قرون، لا فقط كمؤسسة سياسية، بل كجهاز لإنتاج المعاني، ترك أثره العميق في الذهنية المغربية. فقد أنتج نظاماً قائماً على الخوف من الفتنة، وعلى طاعة مغموسة في التوجس والبراغماتية. الطاعة هنا ليست تعبيراً عن الإيمان، بل عن موازين قوى رمزية وثقافية.
2. العقل الشعبي:
تُظهر الثقافة الشعبية أن العقل المغربي عقل “حذر”، يختبر الأشياء عبر المجاز، وينتج المعنى من خلال السخرية والرمز. فهو عقل يؤمن بالحظ، ويتقي العين، ويتوسل الأولياء، ويتجنب الاصطدام المباشر بالسلطة أو “القضاء والقدر”. الحيلة، والمراوغة، و”الدخول والخروج في الكلام”، كلها أدوات ذهنية للصمود داخل منظومة لا يُوثق فيها كثيرًا.
3. ازدواجية الوعي:
يتعايش في الفرد المغربي خطابان: أحدهما رسمي، يُردَّد في المؤسسات، والآخر شعبي، يُمارَس في الواقع. يقول المواطن شيئاً ويفعل نقيضه؛ يسبّ الفساد لكنه لا يتورع عن دفع الرشوة؛ يقدّس القانون لكنه يتهرب منه؛ يطالب بالديمقراطية ويمارس ما يعيقها. هذه الازدواجية ليست نفاقاً، بقدر ما هي تعبير عن اضطراب عميق في البنية الذهنية. بنية ذهنية تقيم الدنيا وتقعدها كلاما بشأن النموذج التنموي الجديد، وفي زمن التنفيذ تصمت صمت القبور.
ثالثاً: العقل المغربي أمام تحديات العصر
1. الحداثة السياسية والمؤسساتية:
أُدخل المغرب في تجربة التحديث من أعلى، مما جعل العقل السياسي المغربي يتعامل مع الانتخابات، والدستور، وحقوق الإنسان، لا بوصفها قناعات، بل بوصفها طقوساً جديدة للتعبير عن الولاء أو الامتعاض. لم يتحول العقل الجمعي بعد إلى عقل ديمقراطي نقدي، لأن الحداثة ظلت سطحية، ولم تصل إلى العمق الثقافي.
2. التعليم والعقل النقدي:
لم تستطع المدرسة المغربية، في عمومها، بناء عقل نقدي متماسك، بسبب هيمنة الحفظ، وتقديس المعارف السلطوية، وإقصاء الفلسفة، وقمع الجرأة الفكرية. بل إن التعليم – أحياناً – ساهم في تعميق التناقضات بدل معالجتها، فأنتج خريجين يفكرون بلغة الحداثة ويتصرفون بثقافة تقليدية.
3. الإعلام ووسائل التواصل:
رغم أن شبكات التواصل فتحت المجال للتعبير الحر، إلا أنها كشفت أيضاً عن رسوخ البنية الشعوبية، وتضخم الخرافة، وسرعة انتشار نظرية المؤامرة. لم يُنتج هذا الفضاء عقلاً متحرراً، بل في كثير من الأحيان غذّى العنف الرمزي، وساعد في إعادة إنتاج الصور النمطية.
نحو تحرير العقل المغربي
إذن، العقل المغربي، كما تَشكَّل، ليس قدراً محتوماً، بل بنية قابلة للتحول، شرط توفّر مشروع ثقافي ومجتمعي عميق يراهن على الحرية، والفكر، والنقد، والخيال. لا سبيل لبناء مغرب ديمقراطي وتنموي دون تفكيك البنيات الذهنية التي رسّخها التاريخ، وإعادة بناء العلاقة مع المقدس، والسلطة، والزمن.
إننا في حاجة إلى “ثورة ذهنية”، تبدأ من المدرسة، وتشمل الإعلام، وتستثمر في الثقافة والفنون والفلسفة. فعندما يتحرر العقل، تحقق التنمية في الواقع.