‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د امحمد مالكي: آفة العطش تهدد المجتمعات العربية

تُعتبر قضية المياه ، من القضايا المزمنة والمتجذرة في النظر السياسي العربي . فمنذ أكثر من ثلاث وعشرين سنة (17-20 فبراير 1986) عُقدت في الكويت ندوة مهمة قاربت “مصادر المياه واستخداماتها في الوطن العربي”، أشرف على رعاية أشغالها كل من “المركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة”، و”الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي”، و”الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية”، وقد صدر في أعقاب ذلك “بيان الكويت حول الأمن المائي العربي”.

ففي الواقع جاءت الندوة أعلاه في سياق تنامي الوعي الدولي بخطورة الوضع المائي العالمي عموما، ودقته المحرجة في بعض المناطق من العالم، وفي صدارتها البلاد العربية. يذكر أنه في عام 1977 عُقد في “ماردل بباتا” (Mar del Plata) في الأرجنتين مؤتمر دولي للمياه، كما تبنت الأمم المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي عهدا دوليا لتوفير مياه الشرب والصرف الصحي، وفي سنة 1984 أعطى المؤتمر الجيولوجي السابع والعشرون، المنعقد في موسكو، الأولوية لمسألة المياه على مشكلات الطاقة والمواد الأولية.

ومن اللافت أنه بعد مرور قرابة خمسة عقود على دخول قضية المياه الأجندة السياسية لمؤسسات التنظيم الدولي، ما زال الماء، الذي جعله الخالق مصدر الحياة، في قلب الحوارات والمفاوضات الدولية، ونميل إلى الظن أنه سيبقى على رأس الانشغالات العالية الكبرى خلال الألفية الجديدة، لاعتبارات موضوعية خاصة بتراجع منسوب المياه في اليابسة وازدياد الطلب على الموجود منها، وبسبب التغيرات المناخية النوعية المتعاظمة التي شهدها كوكب الأرض نتيجة فعل الإنسان وسوء تدبيره لهذه الثروة الاستراتيجية في حياة البشر.

تبدو صورة الوضع العربي في مرآة الأمن المائي العالمي أكثر إثارة للقلق والحيرة، والإحساس بالخطورة الراهنة والمستفحلة، لا محالة، في القادم من السنين. فمن هذه الزاوية بالذات، لعبت المكانة الجيوسياسية للعالم العربي دورا مقررا في رسم قسمات هذه الصورة، وترجيح احتمالات تأكيد تحققها في الزمن المقبل، دليلنا في ذلك الإحالة على المتوفر من الإحصائيات، المعترف بصدقيتها من قبل الدول العربية ومنظمات المجتمع الدولي ذات الاختصاص..

فبحسب المنظمة العربية للتنمية الزراعية، تعتمد 80 في المائة من المساحات المزروعة على الأمطار، ويمثل الباقي الزراعات المسقية أو المروية، مما يعني الارتباط الوثيق بين التساقطات المطرية وتطور الزراعة، أو بالعكس. ثم إن نصيب العالم العربي من الموارد المائية المتجددة يشكل حوالي 0.74 في المائة من الموارد المتجددة في العالم، ولو احتسبنا كمية هذه الموارد بالنسبة إلى كل سكان البلاد العربية، لوجدنا أن نصيب الفرد من الاستهلاك السنوي للماء لا يتجاوز 1744 مترا مكعبا، في الوقت الذي يصل فيه استهلاك نظيره في أمريكا 350 لتر ماء في اليوم، وهي مقارنة تبدو بسيطة، غير أنها تعطي دلالات عن واقع الاختلال الحاصل في توزيع الثروة المائية في العالم.

إلى جانب ما سبق، يقدم الموقع الجيوسياسي للبلاد العربية، وعلى وجه التحديد منطقة الشرق الأوسط، عناصر مهمة لتفسير مصادر التهديد التي تواجه الأمن المائي العربي، وفي النتيجة الأمن الغذائي عامة. فمن المعروف أن 60 في المائة من مصادر المياه مشتركة بين البلاد العربية وغيرها من دول الجوار (تركيا وإسرائيل تحديدا)، كما أن نصيب الفرد العربي من استهلاك المياه ضعيف ومحدود، مقارنة مع نظرائه من المواطنين في العالم، الأمر الذي يدفع، وقد دفع النخب السياسية العربية منذ عقود، إلى جعل الماء قضية ذات الصدارة في أجندتها السياسية، لاعتبارات خاصة بالقيمة الاستراتيجية لمادة الماء، التي لا تقل أهمية عن النفط ومشتقاته، ولتحولها إلى أداة ضغط في الصراعات الإقليمية العربية، ووسيلة ناجعة للتأثير في الأمن القومي العربي، وفي مقدمته الأمن الغذائي.

فمن المعروف أن 70 في المائة من استهلاك الماء يوجه إلى الزراعة، و20 في المائة للصناعة، وما تبقى للاستهلاك (10 في المائة)، وهو ما يعني أن الزراعة العربية ستبقى رهينة هذا الواقع الموسوم بالشح وارتباط منابع المياه بالمحيط الإقليمي، وهو ما يبدو معقدا ودقيقا في المثال العربي، حيث يوجد كيان مستنبت بالقوة، أي إسرائيل، لم يلتهم الأرض فحسب، بل استولى على مصادرها المائية، وأسس كيانا قائما أصلا على جيوبوليتيك رسمت الحدود على خلفية التحكم في منابعها المائية، حتى قبل إصدار قرا التقسيم الأممي عام 1948. فهكذا، وضعت الحركة الصهيونية، منذ مؤتمر بازل سنة 1898، خريطتها لدولة إسرائيل على أساس التحكم في مجمل المصادر الطبيعية للمياه، بل خططت لتغيير خريطتها الطبيعية في مجاريها ومصباتها لمصلحتها، ليس بالنسبة إلى مجرى نهر الأردن الرئيس فقط، بل أيضا لمنابعه وروافده العليا (دان، بانياس، والحصباني)، والوسطى (اليرموك). وشملت خريطتها المائية الليطاني في لبنان، والنيل في مصر، فأرض “الميعاد” لدى الإسرائيليين تمتد في مخططهم من النيل إلى الفرات..

كما تعد تركيا جارا على درجة بالغة الأهمية والخطورة بالنسبة لموضوع الماء ومكانته الاستراتيجية في الصراع الدائر في منطقة الشرق الأوسط. فتركيا تسيطر على مياه دجلة والفرات وتستهلك قدرا أكبر من حصتها من خلال تنفيذ خطة جنوب شرق الأناضول، التي تتضمن بناء 21 سدا لتخزين 186 مليون متر مكعب من المياه، وذلك على حساب سوريا والعراق منها.

لكل ما سبق بيانه، تبدو المنطقة العربية في ميزان الأمن المائي العالمي في وضع حساس ودقيق بالنسبة لتطور إشكالية الماء في الألفية الجديدة. فعلى الرغم من الوعي المتنامي بخطورة هده القضية، والمجهودات الجارية لوضع وتنفيذ سياسات عمومية فعالة وناجعة، تبقى قضية الماء من الأوليات الواجب العناية بها بقدر عال من الوعي والمسؤولية، كي تتجنب المجتمعات العربية آفة العطش الحاد والمزمن، وكي تضمن للأجيال القادمة استدامة هذه الثروة، وعدم تعرضها للتبديد والضياع والتفريط في الحقوق التاريخية القانونية للبلدان العربية منها.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button