
رغم أن انتهاء الصراع العالمي الكبير بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتَفرد امريكا بقيادة العالم، يَفترض الدخول في مرحلة من “السلام”، أو يحقق شيئا من الهدوء، إلا أن الذي حدث هو العكس تماماً، إذ دخلت البشرية في حروب لا تنتهي، وصراعات متعددة الجوانب، ربما تكون الثقافية واحدة من أبرزها.
لم يطغِ صوت السلاح المرتفع على دَور الثقافة التي ازدادت أهمية وخطورة. وبات وضع المثقف أكثر حساسية، عندما أصبح بالإمكان فك الارتباط بين موقفه ودوره، وذلك بعد أن أصبحت قيادة العالم (الصهيونية وأمريكا)، في وضع يمكنها فيه توظيف الموقف (مهما كان) لصالح مشروعها في كثير من الحالات.
هذا ما يفسر تركيزنا الدائم (إصرارنا)، على ضرورة الاهتمام بالسياق وبالملابسات المحيطة، عند اتخاذ أي موقف فكري أو سياسي. إذ لم يَعد سؤال “جودة” الفكرة لدى المثقف وحيدا، بل بات يلازمه سؤال مآلات الفكرة وسياقاتها، وإمكانيات توظيفها لصالح “الآخرين”.
لتوضيح مدى تعقيد المشهد الفكري الثقافي (والسياسي) العالمي، دعونا “نتخيل” الصورة كالتالي؛ فعندما كان الصراع محتدما بين الاشتراكية والراسمالية (الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة)، انقسم العالم إلى تيارين (نهرين) كبيرين، أحدها يصب في “الاشتراكية” والآخر في “الرأسمالية”.
كان كل مَن في العالم يملك خَياره في أن يكون في واحد منها، فاختارت دولٌ وأحزاب ونُخب وسياسات وثقافات “النهر” الاشتراكي، يقابلها دول وأحزاب ونخب وسياسات وثقافات “النهر” الرأسمالي. كلٌ من هؤلاء جرى في نهره وصب في مصبه، والاختلاف بين النهرين كان واضحا في المجرى وفي المصب.
بسقوط الاتحاد السوفياتي وظهور نظام القطب الواحد، جف “النهر” الاشتراكي وبقي الامبريالي الصهيوني وحيدا وازداد تدفقا وزخما، وفقد العالم “رفاهية” الخَيار. وحدث تبدل كبير في سياسة الولايات المتحدة تجاه الذين سبق وأن كانوا في الصف السوفياتي، فبدل أن كان الهدف “الوحيد” تدمير تلك العناصر، أصبح بالإمكان تجييرها واستخدامها. وبعد أن كان الصراع بين “المتناقضات” يذهب بكل منها إلى “نهره” “ومصبه”، أصبح التناقض (في كثير من حالاته) مصدرا لمزيد من القوة لأمريكا.
أصبحت الولايات المتحدة أكثر اطمئنانا وقدرة في التعامل مع “الأضداد”، واستخدامها وابتزاز أطرافها، وتجيير حركتها لصالحها. فالصراع في النهاية في مجرى نهرها ويصب فيه. ولم تعد مضطرة لاتخاذ موقف دائم من طرف ضد آخر، “فصادقت” الجميع، وتحول دورها إلى إدارة للصراعات والاستثمار فيها، وفي كثير من الحالات كانت هي “الوسيط” الذي لم يكن مضطرا أبداً للتظاهر بالنزاهة.
بوجود الاتحاد السوفياتي كان الأمر محسوما، فهي (امريكا) مع اليمين ضد اليسار، ومع المحافظين ضد الثوريين، ومع المعتدلين ضد الراديكاليين، ومع الدين ضد الإلحاد. لم يعد ذلك ضروريا الآن فأصبحت إنتقائية وحسب الحالة، ومع استمرار الصراع أياً كانت أطرافه. فهي مع اليمين هنا وضده هناك، ومع اليسار هنا وضده هناك، ومع الدين هنا وضده هناك. وهي مع أوكرانيا ضد روسيا، ومع روسيا ضد الصين، ومع الهند ضد باكستان، ومع باكستان ضد إيران، ومع إثيوبيا ضد مصر، ومع أريتريا ضد إثيوبيا.. ومع اسرائيل ضد الجميع. المهم أن تجري الأمور لصالحها، وتصب في نهرها، والثابت الوحيد اسرائيل.
في مثل هذا الوضع، وفي الثقافة بالتحديد، لم تَعد الإديولوجيا كافية لتحديد “الجودة”. فلم يعد كافيا للمثقف أن يكون يساريا أو إسلاميا أو أي شيء للإستنتاج أنه “جيد” أو غير ذلك. فالمهم أين يذهب بيساريته أو إسلاميته أو أي شيئه، ولصالح أي مشروع تصب حركته في النهاية.
صارت حركة المثقف “الجيد” (موقفه)، في حال كانت في السياق “الخطأ”، أكثر خدمة للمشروع “المضاد” من المثقف “السيء” (هذا بالطبع إن جاز للمثقف أن يكون سيئا، وإن جاز للسيء أن يكون مثقفا)، ذلك أنّ الوضع وصل لأن يكون مصير أي فعل لأي مثقف، إما يصب في النهاية في صالح المشروع الأمريكي، أو يذهب في الهواء كأنه لم يكن، وذلك لسبب بسيط هو غياب المشاريع الأخرى.
في ظل القطب الواحد، انتفت العلاقة “الحتمية” بين الموقف والدّور، وتخلخل مفهوم “الاصطفاف”. فالموقف لا يُحدد بالضرورة طبيعة الدور ومآلاته، ولا يضمن طبيعة مستخدميه والمستفيدين منه، لذلك أصبح على المثقف أن يهتم ليس فقط بموقفه، بل بدوره في المشاريع الكبرى وموقعه في حركة “العالم”.
لذلك أصبح وضع المثقف (مهمته) أكثر تعقيدا وتشابكا. فالولايات المتحدة على سبيل المثال قد لا يضيرها إن كان يمينيا في كوبا و”يساريا” في اليمن، وملحدا في لبنان وإسلاميا في سوريا، وقوميا في كردستان العراق وأمميا في كردستان تركيا، وليبراليا في إيران ومحافظا في السعودية، فكل حالة حسب سياقها ومآلها.
حالتان فقط لا يمكن الفصل فيهما بين موقف المثقف ودوره، في أحدها ترضى أمريكا عنه وبلا تردد، وبغض النظر عن توجهاته يسارا ويمينا واعتدالا وراديكالية وتدينا وإلحادا، ومهما كانت اهتماماته، ويكون لديها استعداد كامل لتجاوز كل “نواقصه”، وذلك في حال كان صهيونيا. وفي الحالة الثانية، ترفضه في كل حالاته الفكرية وانتماءاته ومواقفه في حال كان فلسطينيا (Palestinist). فإذا كنت صهيونيا فأنت “جيد” كيفما كانت توجهاتك وانتماءاتك وميولك وجنسيتك، وإن كنت “فلسطينست” فأنت سيء في كل الحالات أيضا.
هنا ينبغي إعادة النظر في “وضع” الإديولوجيا ودورها، وكذلك بالمفاهيم التي اعتدنا على استخدامها في وصف توجهات الأشخاص، وحتى الأحزاب والدول. فلم يَعد كافيا ولا مفيدا كثيرا إذا عرفت أن مثقفا ما مؤمن أو ملحد، يساري أو يميني، محافظ أم ليبرالي. فعند قيام اسرائيل لم ينفع الفلسطينيين لا رأسمالية امريكا ولا اشتراكية الاتحاد السوفياتي. وفي الحرب على غزة وقف معها إسلاميو لبنان ويساريو تونس. الفرز الحقيقي والثابت والشامل الآن، يتم بناء على الموقف من فلسطين، والباقي تفاصيل.
هنا تكمن أهمية “التسامح” الإديولوجي أو تجاوز الإديولوجيا في تقييم المواقف. فباستطاعة المثقف أن يؤمن بأية توجه فكري ويكون صهيونيا، وبإمكانه كذلك أن يؤمن بنفس تلك التوجهات ويكون “فلسطينيا” (مع فلسطين). فالموقف من فلسطين هو الذي بات يحدد دور المثقف وليست إديولوجيته، فإلى جانب فلسطين يقف يساريون ويمينيون وثوريون ومحافظون ومسلمون وغير مسلمين، تماما مثل اولئك الذين يقفون إلى جانب الصهيونية وإسرائيل. في هذا السياق، فإن تقسيم المثقفين (والسياسيين) وتصنيفهم إديولوجيا ليس فقط لا معنى له، بل قابل لأن يكون كارثيا على القضية الفلسطينية وعلى قضية التحرر من الهيمنة.
يعيدنا هذا إلى بيت القصيد؛ فالذي تسبب بكل ذلك الإرباك في المشهد الثقافي (والسياسي)، هو هيمنة المشروع الأمريكي الصهيوني، وقدرته على الابتزاز والاستخدام و”الاستثمار” في المواقف المختلفة، والأفكار المختلفة. والحل هنا واضح للمثقف تماما رغم صعوبته، وهو ضرورة أن يكون له مشروعه للتحرر من الهيمنة. ذلك هو الطريق الوحيد لضبط مواقفه والتأكد من مآلاتها لصالحه ولصالح قضيته.
فلسطين (الفلسطينزم) الآن، هي علامة جودة المثقف أياً كان وأينما كان، وهي انسجام موقفه مع دوره، وهي درعه في مواجهة الابتزاز والاستخدام، وهي طريقه نحو الحرية.