
بعد أكثر من خمسة عقود من الصراع المفتعل حول الصحراء المغربية، يبدو أن صفحة جديدة تُكتب في هذا الملف، تحمل ملامح تراجع دور جبهة البوليساريو كفاعل غير سياسي فعّال واستنزاف مشروع الانفصال الذي لطالما دعّمته الجزائر في إطار يتعدى الاعتبارات الجغرافية ليرتبط بطموحات النفوذ الإقليمي والمغاربي. ومع ذلك، لم تكن هذه النهاية نتيجة قرار مفاجئ أو تدخل عسكري مباشر، بل هي ثمرة تحوّلات سياسية وأمنية ودبلوماسية تراكمت على مدار السنوات. هذه التحولات جعلت من مشروع الانفصال عبئًا حتى على داعميه، قبل أن يكون تحديا” أساسيًا لأنصاره وخاصة بالنسبة للمغاربة.
اليوم، لم يعد السؤال حول ما إذا كانت جبهة البوليساريو ستنتهي، بل تحول إلى كيف أسهمت التوازنات الإقليمية والدولية في إعادة صياغة نهايتها باعتبارها كياناً مصطنعاً أنشأته إحدى دول الجوار.
أولاً: من الانفصال إلى العزلة — انهيار المنظومة السياسية للبوليساريو
ظهرت جبهة البوليساريو في سبعينيات القرن الماضي، عندما كانت الحركات التحررية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية تُعتبر رمزاً للشرعية الثورية في مواجهة الاستعمار. لكن هذا السياق الدولي شهد تغيرات جذرية:
– انقضى عصر الحرب الباردة.
- تغيرت مفاهيم السيادة والوحدة الوطنية لتتوافق مع الشرعية الدولية.
- أصبحت القضايا الانفصالية تُقيم بمعايير القانون الدولي ومدى انسجامها مع مبادئه، بدلاً من الاعتماد على الشعارات الأيديولوجية التي فقدت قوتها وتأثيرها مع مرور الزمن.
وسط هذا التحول الجيوسياسي، لم تتمكن البوليساريو من التطور إلى كيان سياسي فعّال وواقعي، بل بقيت محصورة ضمن إطار “اللاجئ السياسي المدعوم” الذي تتحكم به المخابرات الجزائرية بدرجة أكبر من اعتماده على مؤسسات مدنية أو تمثيلية. ومع مرور الوقت، انتقلت من كونها “حركة تحرر” إلى كيان منعزل يعتمد كليًا على الدعم الخارجي، دون أن يمتلك قاعدة سكانية حقيقية سواء على الأرض أو في المناطق المحيطة.
على الجانب الآخر، تمكن المغرب من استعادة السيطرة الميدانية الكاملة على أقاليمه الجنوبية وعمل على إدماجها وتأهيلها ضمن الاقتصاد الوطني، حيث استثمر المغرب في تطوير البنية التحتية الموانئ، الطاقة المتجددة، والتعليم العالي، بالإضافة إلى بناء شراكات اقتصادية متينة مع مختلف دول العالم. هذا النهج جعل الواقع الميداني يتفوق على أي سرديات سياسية مضادة.
ثانياً: الجزائر وعجزها عن تحقيق الزعامة المغاربية والإقليمية
من منظور تاريخي، ارتبط موقف الجزائر تجاه قضية الصحراء بسعيها لتعزيز مكانتها كقوة إقليمية تبحث عن منافذ نفوذ في غرب إفريقيا والمحيط الأطلسي. إلا أن هذا الطموح واجه عدة عراقيل وتحديات أهمها:
١- تغير ميزان القوى الاقتصادية والجيوسياسية : تمكن المغرب من بناء اقتصاد متنوع يعتمد على الخدمات، الصناعة، والطاقة النظيفة، مقارنة بالاقتصاد الجزائري الذي يرتكز بشكل أساسي على العائدات الريعية من صادرات الغاز والبترول، هذا الفارق أدى إلى تراجع قدرة الجزائر على دعم حلفائها، بما في ذلك البوليساريو، بشكل ملحوظ وغير مستدام.
٢- فقدان المصداقية الدبلوماسية الواقعية: مع التطورات الجيوسياسية الإقليمية، باتت أطروحة “حق تقرير المصير” التي تروج لها الجزائر بعيدة عن إطار السياق الأممي، بالأخص بعد أن أقرت الأمم المتحدة بأن الحل الوحيد والواقعي يتمثل في الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، نظراً لما يوفره هذا الخيار من معايير الشفافية والنزاهة، فضلاً عن ضمان الاستقلالية والسيادة الكاملة.
٣- تغيرت أولويات الحلفاء والشركاء الدوليين : فالدول التي كانت تقليديًا متعاطفة مع الجزائر، مثل بعض دول أمريكا اللاتينية أو جنوب إفريقيا، قامت بإعادة تصوراتها السياسية وبناء نهج براغماتي جديد، حيث أصبح من الواضح أن القضية لم تعد نزاعا تحرريا” كما في السابق، وإنما باتت تُصنف ضمن إطار استقرار إقليمي بحت، نتيجة لذلك، وجدت الجزائر نفسها في عزلة خطابية وعاطفية، تحاول التمسك بمشروع لم يعد يحظى بدعم فعلي سوى من بيانات متكررة ومضللة، لا تعكس حقيقة الأوضاع على أرض الواقع.
ثالثا”: التحول الدولي في التعامل مع النزاعات الإقليمية
 شهد العقدان الأخيران تطورًا كبيرًا في طريقة تعامل الأمم المتحدة والقوى الكبرى مع النزاعات الإقليمية، حيث لم يعد الهدف الأساسي هو “إرضاء جميع الأطراف”، بل أصبحت الأول…
 رابعاً: المغرب وإعادة هيكلة المعادلة الميدانية
وسط تراجع وضعف سياسي لجبهة البوليساريو، تمكن المغرب من تنفيذ مشروع تنموي شامل في الأقاليم الجنوبية يعتمد على ثلاث ركائز أساسي
-التنمية كمرتكز للشرعية الواقعية: من خلال مشاريع استراتيجية مثل ميناء الداخلة الأطلسي، والطريق السريع تزنيت–الداخلة، وشبكات الربط الكهربائي والطاقي، حوّل المغرب الصحراء المغربية من منطقة نزاع إلى مركز استثماري يساهم في ربط إفريقيا بالمحيط الأطلسي.
-الشرعية المؤسسية: دمج المغرب الصحراء ضمن بنيته الإدارية والسياسية بتنظيم انتخابات محلية وجهوية ديمقراطية وتحت إشراف أممي ،هذه الإجراءات منحت المؤسسات المحلية تمثيلية شرعية تعزز منطق سيادة المغرب على هذه المناطق.
-الدبلوماسية الفعالة: انتقلت الدبلوماسية المغربية من موقف الدفاع إلى إستراتيجية هجومية إيجابية، متجسدة في بناء تحالفات قوية مع دول كبرى كأمريكا وفرنسا وإسبانيا ودول الخليج، وكذلك عبر تعزيز موقعه ضمن الاتحاد الإفريقي، وبهذا أصبحت المواقف المغربية تحظى بتأييد واسع على المستويين القاري والدولي.
خامساً: العوامل الرئيسية المؤدية إلى إغلاق فصل البوليساريو
يمكن تلخيص الأسباب الهيكلية التي قادت إلى انتهاء دور البوليساريو في خمس نقاط أساسية:
1. تراجع الشرعية التاريخية: الجبهة لم تعد تمثل أي قاعدة اجتماعية فعلية داخل الميدان، بينما يشارك آلاف الصحراويين في مختلف مؤسسات الدولة المغربية، مما يعكس تغير الولاءات على الأرض.
2. عزلة دبلوماسية حادة: شهد الكيان الانفصالي تقلصاً كبيراً في عدد الدول الداعمة، فيما تحول التعاطي مع الملف داخل الأمم المتحدة من كونه نزاعاً سياسياً إلى مسار يسعى نحو حل نهائي في إطار السيادة المغربية.
3. تآكل الدعم الجزائري: في ظل الأزمة الاقتصادية التي تواجه الجزائر واحتجاجات الشارع، لم تعد لديها القدرة على تحمل تكاليف دعم مشروع فقد قيمته الاستراتيجية ولم يعد يخدم مصالحها المباشرة.
4. تبدّل أولويات الأمن الإقليمي: مع زيادة تهديد الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي، أضحى استقرار الصحراء المغربية جزءاً حيوياً من الأمن الإقليمي المشترك، مما جعل أي محاولات لخلق كيان انفصالي تشكّل خطراً كبيراً.
- هيمنة الواقع الميداني: أصبح من الصعب إنكار واقع التنمية الذي تعيشه المنطقة تحت مظلة السيادة المغربية، حيث تحولت الحدود من كونها خريطة نظرية إلى حقيقة جغرافية سياسية مستقرة وملموسة.
سادساً: الانعكاسات الإقليمية لنهاية النزاع إن طي ملف البوليساريو
لا يمثل فقط نهاية كيان معين، بل يعكس تحولاً جذرياً في توازن القوى بشمال وغرب إفريقيا، تتجلى هذه التحولات في النقاط التالية:
1. تعزيز مكانة المغرب كحلقة وصل استراتيجية نحو القارة الإفريقية، خاصة في مجالات حيوية مثل الطاقة، والتكامل التجاري، والأمن البحري.
2. تراجع النفوذ الجزائري في منطقة غرب إفريقيا، بفقدانها ورقة الصحراء كأداة ضغط التي كانت تستخدمها ضد المغرب. 3 . توفير الفرصة لإعادة هيكلة العلاقات بين دول المغرب العربي، حيث قد يؤدي زوال أحد أبرز أسباب الخلاف التاريخي إلى تعزيز فرص التعاون الاقتصادي.
4. تقديم هذا الملف كنموذج أممي ناجح في حل النزاعات من خلال مقاربات واقعية بعيداً عن التوجهات الانفصالية، وهو ما قد يلهم معالجة قضايا مشابهة مستقبلا.
سابعا”: موقف الأمم المتحدة والدول الكبرى من الحل النهائي في السنوات الأخيرة
أصبح الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب المحور الرئيسي لجميع القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، فالمبعوثون الخاصون للمنظمة الأممية، بدءًا من كريستوفر روس وصولًا إلى ستافان دي ميستورا، شددوا على أن أي تسوية لا تأخذ بالاعتبار السيادة المغربية هي غير واقعية وغير ممكنة التطبيق. أما بالنسبة لمواقف الدول الكبرى، فقد تحددت بوضوح كالتالي:
– الولايات المتحدة: تواصل تأكيد دعمها القوي لمغربية الصحراء.
- فرنسا وإسبانيا: تصفان مقترح الحكم الذاتي بأنه “أساس جدي وذا مصداقية”.
– الدول العربية والخليجية: تعتبر استقرار منطقة الصحراء عنصرًا أساسيًا لضمان الأمن الإقليمي سواء في العالم العربي أو على مستوى القارة الإفريقية.
بناءً على ذلك، لم تعد مسألة الصحراء المغربية جزءًا من النقاش حول ملكيتها، بل أصبحت تتمحور حول كيفية تطبيق الحكم الذاتي وتعزيز خطط التنمية في المنطقة.
خاتمة: من نهاية الجبهة إلى بداية مرحلة الاستقرار الأطلسي
شهدت جبهة البوليساريو نهاية دورها كفاعل غير سياسي بعد فقدانها لوظيفتها التاريخية، إذ ظلت متمسكة بخطاب السبعينيات الانفصالي بينما تغيّر العالم من حولها. في المقابل، تمكن المغرب من تحويل القضية من إطار الصراع إلى مسار البناء، ومن الدفاع عن وحدة التراب الوطني إلى ترسيخ سيادته من خلال التنمية والاستقرار. هذا التحول لا يعكس مجرد انتصار دبلوماسي، بل يمثل تطورًا في الفكر السياسي على مستوى الإقليم. فالمستقبل لم يعد رهينًا بحمل السلاح، بل أصبح ملكًا لمن يمتلك المشروع الواضح، والسيادة الشرعية، والرؤية المتبصرة لبناء واقع جديد يخلو من المغالطات. وبناءً على ذلك، يمكن اعتبار أن قضية الصحراء المغربية لم تغلق فقط بقرار أممي أو اتفاق سياسي، وإنما بحتمية تاريخية وإرادة وحدوية فرضتها عوامل الجغرافيا والعقلانية والشرعية. وعليه، يبرز عنوان المرحلة المقبلة بوضوح: “المغرب في صحرائه، والصحراء في مغربها “حقيقة تثبت نفسها ليس بالكلمات، بل عبر الزمن والتنمية والأمن المستدام.
 
				 
					 
					




