
من قال إنّ التاريخ لا يُكتب إلّا من خلال سجلات الحروب وصكوك السِّلم والوقائع السياسية والاجتماعية والدينية؟ هذا تصورٌ ضيّقٌ لم يَعُد قادرًا على احتواء تلك الحيوات التي ضجّت بها الأزمنةُ المنسيّة. فثمة تاريخ آخر، خفيّ وموزَّع في ثنايا البيوت، وفي الأمتعة المنزلية التي طالما بدت في نظر المؤرخ التقليدي تفاصيلَ هامشية، بينما هي، في حقيقتها، مفاتيحُ لفهم عالمٍ كامل: أوانٍ من خزفٍ مطليّ، فراشٌ منسوجٌ بصبرٍ وأناة، خزائن خشبية تحمل رائحة الأعوام، رموزٌ في الزخارف، ونقوشٌ في الجدران، وأساليبُ للعيش هي خلاصة عبقرية المكان وروحه.
لقد صارت بعض الكتابات التاريخية الحديثة تدرك أنّ الأشياء أكثر قدرةً على قول الحقيقة من الوثائق؛ فهي تحتفظ بأثر اليد التي صاغتها، وبنشيد الحياة اليومية الذي لا تدوّنه السجلات الرسمية. ومن هنا ينهض سؤال: ألا يمكن كتابة تاريخ فاس ومراكش وتارودانت، بل تاريخ الحواضر العتيقة في المغرب كلّه، عبر تتبّع مسار الحِرَف اليدوية، وأنماط الزخرفة المنزلية، والأدوات المستعملة في الطهي والزراعة، وكيف انتقلت من فضاء إلى آخر؟ بلى، بل إنّ هذه المقاربة وحدها تكشف ما عجز التاريخ السياسي والثقافي التقليدي عن إبرازه: حياة الناس العاديين، ذلك النسيج الدقيق الذي يحفظ معنى الوجود اليومي للأمة.
ومثل هذا المشروع لا ينهض به المؤرخ بمعناه الحصري؛ بل يتطلّب معرفةً موسوعية تستوعب تاريخ الصناعات، ودلالات الأشياء، وطرائق استعمالها ورمزيتها. يحتاج إلى مؤرخ ميداني يغوص بين الحرفيين، يلمس بأصابعه الخشبَ والجلدَ والنحاسَ، ويتدرّب على قراءة العلامات المنقوشة على الأشياء الصغيرة التي لا يلتفت إليها الباحثون عادة.
وقد وجدتُ لهذه الفكرة تحقيقا باهرا في ذلك الكتاب الأخّاذ الذي غصتُ في لجّته الساحرة: “حكاية أخرى لعصر النهضة” للمؤرخة الفرنسية المرموقة إليزابيث كروزي بافان، الصادر عن دار ألبان ميشيل سنة 2024 (390 صفحة). هذا الكتاب ليس سردًا لوقائع عصر النهضة كما ألفناه، بل هو إعادةُ كتابةٍ للتاريخ من زاوية الأشياء في إيطاليا القرن الخامس عشر: الأسرةُ، الأفرشة، الأواني، التحف الصغيرة، والهدايا التي كانت تعبر البحر الأبيض المتوسط في خطوط تجارة نشيطة ربطت إيطاليا بمدن الشرق. لقد نسجت بافان تحليلًا يجمع بين الدقّة الاستقصائية والتأويل الأنثروبولوجي، فتتبّعت علاقة الناس بالأشياء التي يصنعونها ويستعملونها، وكيف تتحوّل، في الذاكرة الجماعية، إلى رموزٍ و”ذكريات مادية” تروي حكايات البشر وأذواقهم ومخيالهم.
ولعلّ ما قاله الأستاذ سعيد يقطين قبل أمس في تدوينته الرائعة عن “أَقْراب” – تلك الحقيبة الجلدية التي كان والده يعلّقها ويخزن فيها بعض الأغراض – يقدّم مثالا مغربيّا حيا على قوّة الأشياء في حمل المعنى. ف”أقراب” ليس مجرد محفظة؛ إنه، في الوعي المغربي عامة والأمازيغي خاصّة، علامة على الأصالة والهيبة الاقتصادية وحرص الرجل على نظام حياته. إنه عالمٌ صغير من الأسرار، قطعةُ جلد تتجاوز وظيفتها النفعية لتصبح رمزًا اجتماعيًّا وثقافيًّا، تمامًا كما كانت الأواني والزخارف في حواضر البحر المتوسط تعبيراتٍ عن ذوق عائلاتٍ وطبقاتٍ وأسفارٍ وتبادلاتٍ ثقافية.هكذا يكشف لنا التاريخ الحديث أنّ الأشياء ليست صامتة؛ بل هي تتكلم، وتفيض بالدلالات، وترسم لنا خريطةً أخرى لحياة البشر. ولذلك لم يبالغ جاك دريدا حين قال إنّه حاول أن يكتب “تاريخًا للكذب”، -وقد كتبه بالفعل وصدر الكتاب مترجما الى العربية- فالتاريخ يمكن أن يُكتب عن كلّ ما يقيم بين الناس علاقةً، حتى الكذب ذاته، سواء كان كذب السياسيين، أم كذب المجتمع على نفسه، أم كذب الأزواج، أم كذب وسائل الإعلام واليوتوبيين. غير أنّ ما يهمّنا هنا ليس الكذب بحدّ ذاته، بل إمكان تحويل كل ظاهرة، مهما بدت هامشية، إلى مدخل لفهم المجتمع وتأويل سيروراته العميقة.

التاريخ الذي يُكتب من خلال الأشياء – الأمتعة، الزينة، الأزياء، الأدوات، والهدايا – هو تاريخ يقترب من نبض الحياة، ويمنحنا رؤيةً أكثر ثراءً لحضاراتٍ كنا نظن أنّنا نعرفها. إنه تاريخ “المعيش”، تاريخ البشر كما كانوا يعيشون حقًّا، لا كما أراد المؤرخون الرسميون تصويرهم.
تاريخ آخر تم إغفاله من قبل المؤرخين الكلاسيكيين ويعاد اليوم الاهتمام به وهو تاريخ الحانات الخمارية . ففي قصة “ذهب سوس” التي ترجمها الكاتب المغربي قاسم الزهيري رحمه الله وأعاد نشرها عبد الصمد بلكبير ضمن منشورات اتصالات سبو (نص ممتع يجب قراءته لاسيما وأن قاسم فيه كفاءاته الترجمية) ورد في الصفحة 8 من هذه القصة ما يلي : ” كانت الحانات في ذلك العهد (يقصد عام 1593 منتدى لخليط من كبار الأمراء والشعراء والممثلين والمحامين والمغامرين… فكانوا يغشونها لاحتساء أقداح النبيذ وتدخين التبغ الذي تم إدخاله لانجلترا في ذلك العصر على يد والتر راليغ وللمساجلات الخطابية والشعرية وسط تصفيق الحاضرين. وكانت لحانة “دوقة الذهب” التي يديرها الشيخ “دافيرس” شهرة خاصة حيث كان روادها يشربون فيها شراب “لندن إيل” وكان أحلى طعما من أصناف النبيذ فكان لرجال السيف والقلم بها مساجلات خطابية شهيرة . وهناك كان ويليم شكسبير وهو إذاك في مقتبل مجده يلتقي ببكيت مارلو وكان يكبره سنا وله صيت بعيد الشأو” وتمضي القصة في حكي ممتع يزاوج بين وصف المواد والأشياء في في تلك الحانات الكبيرة لتخبرنا بأن التاريخ يكتب حتى في أكثر الأماكن طلبا للمتعة وربما كُتب تحت تأثير الخمر في العقول والسلوك وأشعار الغرام بالحسناوات اللواتي يحطن بالأمراء والوزراء والسياسيين والمثقفين والمحامين كخليط ممن يصنعون الأحداث للبسطاء خارج تلك الحانات ..
وبيت القصيد في كل ذلك ومن خلال هذه النماذج أن كتابة التاريخ اليوم أصبح يُكتب من زاوية الأطراف والهوامش والأماكن التي ظلت على الهامش وكان ميشيل فوكو سباقا لهذا التاريخ الجديد خينما فتح نافذة جدية في هذا الباب أثمر كتبه :تاريخ الجنون و” المراقبة والعقاب” وغيرها. وهذا المنزع في كتابة التاريخ من زاوية مختلفة هو ما تفيدنا به أعمال إليزابيت كروزي بافان.





