‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د حسن طالبي: قرار أم قفزة في الظلام

ها هو وزير التعليم العالي عندنا يثبت للعالم أنه رجل أفعال لا أقوال، وأنه لا يحتاج لجيوش من اللجان والندوات والمذكرات كي يصنع التاريخ. يكفيه قلم واحد وورقة واحدة وتوقيع واحد ليعلن للطلبة المغاربة وداعاً لبحوث الإجازة والماستر. القرار جريء، وغير مسبوق، بل استثنائي… حتى أن وزراء التعليم في أوروبا وأمريكا واليابان ــ أولئك الذين يضيّعون أوقاتهم في البحث عن بدائل تربوية وتجريب مناهج جديدة ــ لم يخطر ببالهم أن يحسم وزيرنا الميداوي الأمر بهذه السرعة: من الغد، لا بحوث ولا تقارير، انتهى الكلام!

لكن لنكن منصفين: للقرار سلبياته كما له إيجابياته.

إيجابياته أن زمن تقنية “نسخ ولصق” من ويكيبيديا قد ولى، وتوقفت تجارة بعض المكتبات التي كانت تبيع البحوث بالتقسيط مع خدمة “التوصيل المجاني”. كما سيتحرر الطلبة من كابوس “المراجع الأجنبية” التي كانوا يتعاملون معها كما يتعاملون مع وصفات الطبخ: يذكرونها ولا يقرأونها. نضيف إلى ذلك أن آلاف الأساتذة سيوفرون وقتاَ ثمينا كانوا يهدرونه في تصحيح بحوث يعرف نصفهم سلفا أنها لا تستحق سوى تعليق: منقول مع بعض التعديلات.

لكن للقرار أيضا سلبياته (ولو أننا نعرف أن الوزير لا يحب كلمة سلبيات): مع سن هذا الإجراء سيفقد الطالب آخر فرصة ليشعر أنه “باحث” ولو لمرة واحدة في حياته. وستخسر المطابع موردا ماليا محترما كانت تجنيه من أغلفة البحوث المصقولة. سينتهى زمن “الإهداءات” المؤثرة من قبيل: إلى والدي العزيزين اللذين ضحيا من أجلي. والأسوأ: قد يكتشف الطلبة أنهم لم يأتوا للجامعة إلا للبحث عن الشهادة لا البحث العلمي.

ثم جاء الوزير بالبديل: تقرير تدريب في مؤسسة عامة أو خاصة. اقتراح جريء آخر، لكنه يثير سؤالاً أكبر: أين سنجد تلك المؤسسات السخية التي سترحب بآلاف الطلبة دفعة واحدة، وتفتح لهم الأبواب ليحتضنوا الملفات والأرشيف ولو لأسبوع واحد؟ ماذا عن طلبة كليات الآداب والشريعة؟ هل سيجدون مكانا لهم في الشركات العائلية التي لا تؤمن أصلاً بروح المبادرة ولا المساندة، بل بالكاد تثق في موظفيها؟تخيلوا مؤسسة صغيرة في حي شعبي تستقبل خمسين طالباً ليتدربوا أسبوعا: واحد يعد الشاي، آخر يرقن الفواتير، وثالث يقف عند الباب بصفة “مستقبل الضيوف”. ثم في الأخير، يكتب الجميع التقرير نفسه: لقد استفدت كثيراً من هذه التجربة الغنية.

بين السلبيات والإيجابيات والبدائل “العجيبة”، يبقى السؤال: هل نحن أمام إصلاح فعلي أم مجرد “قفزة في الظلام”؟ وهل فعلا هناك دول أخرى ألغت بحوث الإجازة والماستر؟ الجواب: لا. لأن باقي الوزراء عبر العالم ما زالوا يظنون أن الإصلاح يحتاج إلى رؤية واستشارة وخبراء. أما عندنا، فالأمر أبسط: ورقة وقلم، وقرار ينزل كالمطر الصيفي على رؤوس الجميع.

في النهاية، سيحفظ التاريخ للوزير فضله العظيم: اختصر سنوات من النقاشات والندوات في جرة قلم واحدة. وما دام المستقبل يسير نحو الذكاء الاصطناعي، فلنستعد من الآن لقرار أكثر جرأة: إلغاء الطلبة أنفسهم… وتعويضهم بالروبوتات المتدربة في الشركات.

اتمنى صادقا الا يأتي يوم نردد فيه جميعا أن السيد الوزير انطبق عليه المثل المغربي القائل ” جا يكحلها وعماها”..

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button