
حين يحج إلى ساحة من ساحات الغناء والرقص، في مواسم الشتاء والصيف، شباب يريد أن يفوج عن نفسه وينشط ويفرح ويمرح ويغني ويرقص كسائر الشباب على هذه الأرض، يسارع “الفاهمون الجدد”، وحتى قبل انتهاء الحفلات، إلى النشاط بدورهم والفرح والابتهاج بهؤلاء الشباب وبألوفهم المؤلفة، ويهللون بانتشاء شديد بأنها لم تعد تجمعها لا أحزاب ولا نقابات، ولا مسيرات ولا مظاهرات، ولا بحار ولا محيطات… بل إنهم راحوا يفهمون علينا بأن هؤلاء الشباب حددوا توجهاتهم، واختاروا مرجعياتهم، وانحازوا إلى ما يناسب زمانهم ويلائم عصرهم… هكذا، اكتشفوا، فجأة، ظهور جيل جديد بالمغرب!
يتكلمون عن جيل جديد بالمغرب، كما لو أن هذا المغرب لأول مرة سيشهد ميلاد جيل جديد! كما لو أن هذا المغرب لم يظهر على أرضه جيل جديد إلا بظهور هذه المهرجانات ونصب منصاتها في الساحات العمومية.
يتكلمون عن جيل جديد بالمغرب، فقط حين يقصد الشباب ساحات المهرجانات ومنصات الرقص والغناء. لكن حين يملأ هذا الشباب نفسه ساحات أخرى، ويضرب “في طول البلاد وعرضها”، في المدن والقرى، وفي الجبال والمداشر، فلا جديد، حينها، يظهر لهم.
يتكلمون كما لو أن هذا اليوم الذي نحن فيه ليس له أمس. والحال أن الأمس ليس ببعيد. ففي الأمس القريب، عشنا وشهدنا وشاهدنا الجديد الذي ظل ينبثق من شباب المغرب. وكثيرون ممن أصابتهم، اليوم، الدهشة من هذا الجيل الجديد في ساحة الغناء، عاينوا وتابعوا، أمس، ما كانت “تقترفه” أجيال جديدة في ساحات أخرى.
فَمِن شباب المغرب، خرجت جموع الأساتذة المتعاقدين الذين تظاهروا في وقفات احتجاجية ومسيرات جابت شوارع عشرات المدن. وبقية القصة معروفة.
ومن شباب المغرب، خرج طلبة كليات الطب والصيدلة في أطول إضراب طلابي شهده المغرب، وجابوا شوارع العاصمة ومدن أخرى. وبقية القصة معروفة.
ومن شباب المغرب، خرج شباب حركة 20 فبراير، الذين طالبوا بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وحرَّكوا البرك الآسنة، وأرعدت تظاهراتُهم في جميع مدن المغرب وقراه فرائصَ الكثيرين. وبقية القصة معروفة.
ومن شباب المغرب، خرج شباب حركة المعطلين التي شكل ظهورها، قبل 34 سنة، عنوانا لحركة اجتماعية احتجاجية جديدة بالمغرب، وانبثقت عنها مجموعات قاسمها المشترك هو مطلب الشغل الذي مايزال يشكل إحدى أكبر عناوين الأزمة الاجتماعية في بلادنا.
وقبل ذلك بعقود، خرجت من ثانويات المغرب حركة تلاميذية، لها في التاريخ المغربي عنوان. ومن الجامعة المغربية، خرجت حركة طلابية لم يُثْنِها النضال من أجل المطالب النقابية للطلاب عن الانشغال بقضايا المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية…
والقصة لم تَنْتَهِ، ولن تنتهيَ. ودروس التاريخ تفي بالغرض لمن أراد أن يعتبر من قصصه. ولا شيء يمنع من أن ينتقل الشباب الذي ملأ ساحة الغناء اليوم إلى ساحات أخرى غدا، في إطار البحث عن “الجديد” دائما.
إن الشباب المغربي ظل دائما يقدم نماذج لأجيال جديدة. كل جيل يعيش زمانه ويتفاعل مع ظروفه، يبدع أسلوبه في التواصل والتفاعل، ويصنع أشكاله في الاحتجاج والتظاهر. يرفض القديم، ويبحث عن الجديد، في الفرح كما في الغضب، في الرقص والغناء كما في التفكير والتعبير… ولم نكن ننتظر إلى أن يَنْصِب أحدُهم منصة هنا أو هناك، حتى يَنْصِبَ هؤلاء “الفاهمون الجدد” على المغاربة بالتبشير بهذا الاكتشاف!
الجيل الجديد دائما موجود، وظهوره متواصل في الزمان والمكان، لا ينقطع بحد الزمان، ولا ينحصر في حدود المكان.
أيها “الفاهمون الجدد”.. لا تهرفوا! ولا تنصبوا!
اتركوا الشباب يعيشوا شبابهم، بالغناء والرقص، بالتفكير والتعبير، بالاحتجاج والغضب…
اتركوهم يتمتعوا في ساحات الغناء، ويعترضوا في شوارع الاحتجاج.
لا تستغلوا فرحهم لتصفية الحساب…
ولا تستعملوا غضبهم للتقرب أو التمسح…