فنون وثقافةلحظة تفكير

د محمد فخرالدين: الماء بين القانون والبيئة والأنثروبولوجيا

البشر يعتدي على البيئة التي يعيش فيها، لا يفكر فيما سيترك للأجيال اللاحقة، ولا يفكر في كون الحق في البيئة حقا دستوريا ولا حقا من حقوق الإنسان، يرتبط بالحق في الحياة والصحة والنظافة العمومية والعيش في تناغم مع باقي الكائنات في توازن بيئي .. وفي هذا السياق لا بد أن نحتفي ونحيي كل تلك الرؤى المشرقة التي قادت نشأة القانون البيئي وجعلته يفكر في سعادة البشرية وتنميتها المستدامة..

إن علاقة الإنسان ببيئته في حقيقة الأمر ملتبسة، فهي إن كان لها الفضل في وجوده كأم شملته برعايتها منذ البداية، فإنه لا يبادلها هذا الود وكأنه لم يسمح لها بأنها أفزعته ذات ضعف، بسشاعتها حتى اعتقد أنها ممتدة إلى ما لا نهاية، وهي لم تسئ إليه بفطام سريع حتى اعتقد أنها يمكن أن تتحمل دائما سلوكه السيئ فتبقى تغدق عليه بعطائها  ..

هذه البيئة التي كانت ترعبه في الماضي عندما كان قاصرا علميا وتقنيا، فغلف عجزه بسرد الأساطير عنها وتقديسها والخوف منها، لكن ما أن استقوى حتى أصبح ينتقم منها شر انتقام ويساهم في تدهورها ، وهو لا يدرك أنه يحطم نفسه وعالمه ويخرب بيته بيده، وقد فطن الفقهاء القانونيون إلى الحاجة الى ما يلجم جموحه، من منظور مقاربة تجمع بين الضرر والمسؤولية، والخطإ والتعويض، ومن تم ضرورة وجود قواعد تحمي هذه البيئة المهددة بجهل الإنسان وجشعه، وخاصة أن الضرر يتجاوز الضرر العادي ليلحق الاجيال المقبلة التي لا مدافع عنها إلا الضمير الإيكولوجي، وهو ضرر  انتشاري يتجاوز الحدود الوطنية، وهو خطير يهدد الصحة والسلامة والتنوع البيولوجي .. ويزداد الأمر حدة عندما زاد قدر هذا التدهور الذي يستحيل إصلاحه، والذي لحق البيئة التي ينبغي أن تجد في صفها من يدافع عنها كطرف في الخصومة وكضحية متعرضة للضرر الجسيم ومن ورائها كل متضرر قريب أو بشرا أو غير بشر ، يستحق تعويضا من مضر أو ملوث لها .. فكان مبدأ الملوث المؤدي مبدأ أساسيا لمحاولة تعويض واستصلاح الضرر الذي يصعب إصلاحه ..

   فكان القانون البيئي الذي أبى إلا أن يدافع عن كون الحق في البيئة حق من حقوق الإنسان الأساسية والتي لا بديل عنها ، وأنه لا بد من عهد جديد لهذه الحقوق بالإضافة إلى الحقوق المذكورة في العهدين الدوليين السابقين 1966 ..ورغم ذلك مازالت مختلف عناصر البيئة تضيع أمام أعيننا والكثير من مظاهر التنوع البيولوجي يفقدها عالمنا .. مما يجعل احترام واستحضار القانون البيئي أهم ما يمكن إدماجه في سياساتنا العمومية القطاعية والبين قطاعية ..

ويعتبر الماء من أهم عناصر البيئة التي تحتاج إلى كل أنواع الحماية من أخطار مصدرها الطبيعة والبشر، وأنشطته المهددة للبيئة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فهل للحفاظ على الماء الذي تعتمد عليه الكثير من الأنشطة البشرية صناعيا وفلاحيا وفي الحياة اليومية، علاقة بالقانون فقط أم أن له علاقة أيضا بالوعي البيئي وبالتربية على البيئة ـ كما نادى بذلك الأكاديمي المختص في القانون البيئي ميشيل بريور  …و بتمثلات الإنسان المنغرسة في الثقافة والمقدس ..

فكيف لتمثلاتنا عن الماء أن تنعكس انعكاسا فعليا على الحفاظ عليه وحمايته، بل كيف ننظر اليوم إلى الماء حقيقة، وأين غاب تقديس الماء الذي كان عند أجدادنا، وهل يمكننا تخيل عالمنا بدون ماء، ولم رغم ما نزعم من إدراك لأهميته يضيع الكثير منه في غفلة منا أو قصد ..

نتناول موضوع الماء من منظورات متقاربة ومتقاطعة أساسها كيف نظر الإنسان إليه قانونيا وثقافيا، وكيف حارب من أجله وسيحارب غيره في حروب مائية، وكيف ساهم الماء في بناء الحضارة الإنسانية وصف مدنه على مجاري الأنهار وعلى سواحل البحار، وهل يكفي القانون وحده لدفع الإنسان إلى ترشيد استعمال الماء والمحافظة عليه  ..

الماء و القانون :

 لاشك أن وضع الماء بالنسبة للإنسان في غاية الأهمية، فهو مورد رئيسي لا غنى عنه، لذلك نلاحظ أن هناك جهودا قانونية بدلها المشرع لحماية الماء لدرجة انه وضع له شرطة  خاصة تضبط  المخالفات كما في لقانون 15.36 المتعلق بالماء … فهل بامكان الزجر المائي أن يحمي الماء من التلويث والإفراط والتبدير والإنهاك  ..

“يحدد هذا القانون قواعد التدبير و المندمج واللامركزي والتشاركي للموارد المائية من أجل ضمان حق المواطنات والمواطنين في الحصول على الماء، واستعمال عقلاني ومستدام للماء، وبهدف تثمين أفضل كما وكيفا له ولوسطه وللملك العمومي المائي بصفة عامة، كما يحدد قواعد الوقاية من المخاطر المرتبطة بالماء بما يضمن حماية وسلامة الأشخاص والممتلكات والبيئة.”

ويهدف هذا القانون أيضا إلى وضع ضوابط وآليات التخطيط للمياه بما في ذلك المياه المستعملة ومياه البحر المحلاة وغيرها للرفع من الإمكانات المائية الوطنية مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات المناخية بهدف التأقلم معها.

قانون رقم 10.95 يبدأ ببيان الأسباب و يعتبر الماء موردا طبيعيا أساسيا للحياة ومادة ضرورية يرتكز عليها الجزء الأكبر من الأنشطة الاقتصادية للإنسان، كما أنه مورد نادر بتميز توفره بعدم الانتظام في الزمان والمكان، وهو أخيرا شديد التأثر بالانعكاسات السلبية للأنشطة البشرية”.

ويسعى هذا القانون إلى إقرار سياسة وطنية مائية مبنية على نظرة مستقبـلية تأخـذ بعين الاعتبار تطور الموارد المائية من جهة، والحاجيـات الوطنية من جهة أخرى متضمنا تدابير قانونية ترمي إلى ترشيد استعمال الماء، وتعميم الاستفادة منه، وتضامن الجهات، وتدارك الفوارق بين المدن والبوادي في إطار برامج تهدف إلى تحقيق الأمن المائي على مستـوى مجموع تراب المملكة.

 على اعتبار أن  الماء ملك عام، ولا يمكن أن يكون موضوع تملك خاص .. ويمنح الحق في استعمال الماء وفق شروط  محددة .

و اذا كان الماء ملكا عاما كما يعرفه المشرع، فلم لا يكون الامر الحفاظ عليه  عفويا من شأن الجميع ، وهو الذي حرك الحضارة والثقافة الإنسانية منذ أقدم الأزمان، أم أن هناك نقص ما في الوعي الجمعي، أي أن هناك ثقافة معاكسة لا تساعد على ذلك، ثقافة أنانية تعترض نفاذ تلك القوانين التي سنها المشرع لحماية البيئة بشكل عام والماء بشكل خاص، وعرض إليها التراث المغربي غير ما مرة   ..

يقول المشرع ملوحا بعقاب كل مخالف : “يمكن للإدارة أن تتخذ كل إجراء من شأنه الحد من تلوث المياه الناتج عن مصادر أخرى غير صب المياه المستعملة”.

كما يمكن للإدارة عند معاينة حصول أضرار تهدد الصحة أو الأمن أو السلامة العمومية أن تتخذ، بتنسيق مع وكالة الحوض ، أي إجراء نافذ فوريا للحد منها”.

فلم نحن مقصرين في رؤيتنا لأهمية الماء في الواقع ونحن نرى حاجة الناس إلى مياه الشرب، ومقصرين في رؤيتنا لمجموع تراثنا الطبيعي المادي واللامادي، فهل يستطيع القانون أن يهزم ثقافة جديدة لا تعبأ بالتراث البيئي ما دامت لا تشعر بذلك، أم هو محتاج لإحياء ثقافة أخرى ليكون أكثر فعالية ونجاعة من خلال التحسيس والتنبيه والوعي البيئي، ودق ناقوس الخطر واستحضار الأسلوب العلمي لمواجهة التهديدات المستمرة نتيجة تغير المناخ  …

يتعهد القانون بالزجر، وبمعاينة المخالفات وبتحرير المحاضر للمخالفين وعهد بذلك إلى ضباط الشرطة القضائية، وإلى أعوان شرطة المياه المعينين لهذا الغرض من طرف الإدارة ، ووكالات الأحواض المائية والمؤسسات العمومية الأخرى المعنية..

فهل بإمكان القوانين الزجرية وحدها أن تحقق أهداف حماية الماء والبيئة والتقليل من الأخطار المحدقة بها ، أم نحتاج إلى وعي بيئي شامل في عالم يتفاقم فيه الوضع المائي و البيئي وينبؤ بالكارثة ، وهل تستطيع القوانين الموجودة مسايرة الأضرار الجسيمة، أم نحتاج إلى قوانين جديدة تجعل الماء أولوية وطنية . 

الماء والتراث :

كان الماء كملك جماعي هاجسا دائما عبر التاريخ خاصة مع شح الأمطار، الشيء الذي  يطرح  ضرورة تدبير الموارد المائية للحفاظ على توازن المنظومات الايكولوجية والثقافية، باعتبارها من أهم العوامل المؤثرة في علاقة الإنسان بوسطه الطبيعي والاجتماعي.

     ونظرا للوعي الجماعي بأهمية الموروث المائي ودوره في تنظيم العلاقات الاجتماعية والأنشطة الاقتصادية ، فقد عمل الإنسان المغربي عبر التاريخ بتدبير هذا المورد من خلال تجميعه  في المطفيات وتنظم مسيره وصبيبه  في الخطارات والقنوات وفقا لمجموعة من القواعد والمواضعات التقليدية الجماعية ..”لتقنينه وضمان نجاعة توزيعه بين ذوي الحقوق حسب الأعراف المحلية ”إزرفان”…، أو في إطار قوانين تشريعية… وتأسيس تنظيمات جمعوية، بغية عقلنة وترشيد استعمالاته المتعددة”.

“لقد أنتجت النزاعات حول الماء في تاريخ المغرب الأقصى أعرافا وأنظمة استغلال، مكنت من اقتراح حلول للصراعات الفردية والجماعية حول الموارد المائية، والحفاظ على الماء وترشيد استعماله نال نصيبه من الفتاوى، فقد شكلت نوازل المياه موضوعا أساسيا داخل كتب النوازل، وأشارت للمشاكل التي كانت تثار بسبب قسمة الماء، وتحديدا خلال حقبة الجفاف”.

إن دراسة أنماط تدبير الموارد المائية والحفاظ عليها، يطلعنا على عبقرية الإنسان المغربي في تعامله مع شح المياه وترشيدها وعقلنتها وانتاج قوانين مائية ، كما يضيء أهمية توزيع الماء وتنظيمه في نشأة التجمعات السكانية واستقرار القبائل عبر التاريخ ..

إن الأهمية القصوى التي يشكلها الماء في التراث الثقافي المغربي، جعلته يرتبط بنزاعات اجتماعية  من جهة وبمجموعة من الشعائر والطقوس التقليدية كالاستمطار ضد الجفاف ، والخاصة التواجد منابع المياه قرب الأضرحة والزوايا  ..

الماء و المقدس :  

ومن تقديس الماء ذلك التصور المغرق في القدم للمياه الشافية المياه  التي قرب المزارات، والقدرات السحرية الخاصة بالماء، ناهيك عن الطقوس التي استعملها الإنسان لاستجلاب المياه..

“ويتصل هطول المطر كذلك بممارسات عبر مسميات عديدة لكل بيئة على حدة، تدور غالباً حول فعل الاستمطار : كطقس “أم الغيث” في كثير من الدول العربية، وطقس “احتفال السحاب” بموريتانيا، “وصلب العدة” في سوريا، وطقس “روب توغ” بشرق إفريقيا، و”أم قطمبو” في ليبيا، و”تاسليت” و “بو غُنجة” بشمال إفريقيا”.

أو بعض الممارسات والاعتقادات  الأخرى كصب الماء وراء المسافر، “والذي يعد مثار تشاؤم كناية عن أن المسافر لن يعود، كذلك السمات العلاجية لماء بئر زمزم، والتبرُك به، كاستخدامه في “طاسة الاسم” بالبحرين مثلاً، والمستخدمة في شفاء المرضى”.

ولا تخلو طقوس الزواج أيضاً من استعمال الماء دلالة على التجديد و الانتقال أو ما يسمى أنثروبولوجيا بالترشيد ، “بدءاً من حمام العروس  الذي  يجري في الحمامات الشعبية، وصولاً إلى طقوس أكثر تعقيداً، كإلقاء الشعير المطحون بالبئر طلباً للبركة للأسرة الجديدة، أو حتى “موكب السيرة” الطقس السوداني الذي ينتهي إلى نهر النيل”:.

وترتبط الكثير من الأمثال الشعبية والحكايات والأحجيات بالماء ، مما يدل على أهمية الماء ..في حياة الإنسان وكلامه وفنونه، ونظرته الايجابية إليه التي تصل الى درجة التقديس والأنسنة، حيث تفسر الثقافة الشعبية المغربية كلام الماء وهو يغلي فوق نار الخشب بكونه يقول: العود اللي سقيت منه اكتويت .. كناية على إساءة البشر للماء ..

الماء و الأساطير

استمدت الأسطورة من الماء دلالات ورموزا ، فقدسته وجعلته أصل الحياة، فهو الرحم الأقدم الذي احتضن الوجود قبل أن يخرج إلى شكله الحالي في كثير من الثقافات القديمة، مصدر للخلق، فالاغتسال أو شرب ماء نهر أو نبع  يمنح الخلود، والعودة مجددا إلى الشباب ..

 في اليونان القديمة يذكر  أن الموتى يشربون الماء من ممر مائي يدعى “ممر النسيان” ليفقدوا ذكرياتهم القديمة ، وينعموا بحياتهم الجديدة.

وفي بلاد الرافدين تقول الأسطورة .. لم يكن في الوجود سوى المياه الأولى ممثلة في ثلاثة آلهة تمثل أشكالاً مختلفة من الماء وظواهره: فأبسو الماء العذب، وتعامة زوجته هي الماء المالح. أما ممو، فهو الأمواج المتلاطمة الناشئة عن المياه الأولى. 

وفي الأساطير الفرعونية لم يكن في البدء سوى بحر هائج يحتوي في داخله كافة الآلهة الخيرة والشريرة، ثم خرج رع الشمس المشرقة وأنجب الكون وموجوداته ..

في البلاد الاسكندنافية تكفي بضع قطرات ـ نجمت من التقاء الأنهار الجليدة بالنار الملتهبة في باطن الأرض ـ لخلق أول البشر .

 وعند الهنود الحمر لم يكن هناك إلا الماء والحيوانات المائية ، الماء ذلك الرحم  الأول الذي احتضن الجميع بدفء ،في وادي النيل يتماهى الماء مع دموع إيزيس الفاضلة على زوجها المغدور فيفيض حزناً.

أما الأسطورة الهندوسية حول نهر الهند المقدس الغانج، فتتخيل هذا النهر على أنه إلهة تجري باستمرار مطهرة في طريقها كل نفس تلمسها.

الماء و الاحلام

ترتبط الأحلام البشرية بالماء منذ قديم الزمان ، فهو رمز للخصب والحياة ، وباشلار في كتابه «الماء والأحلام» يقول أن العين الحقيقية للأرض هي الماء، الماء في أعيننا هو الذي يحلم، أليست عيوننا عبارة عن بركة ماء لا تنضب من النور السائل الذي وضعه الخالق في أعماق أنفسنا؟ فالماء في الطبيعة هو الذي يحلم.

والماء مرآة ممتدة في أسطورة نرجس تعلم الإنسان حلم صورته التي تجري مع صورته جريان الماء و تظهر ما في النرجسية من إبداع ..وإلا لماذا يتمارى الإنسان أو يعرض صورته في صفحة الماء .. المرآة كالماء أداة حلم ..

وعندما نتأمل تفسير الماء في الأحلام نجد في تفسير الأحلام، أن رؤية الماء في المنام يدل أن الحالم سوف يحقق أمنياته من الحياة والخصب والرخاء كما في التنزيل الكريم : وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا  .

خاتمة

كل ما تم ذكره يوضح إدراك الإنسان بوعي أو بدون وعي لأهمية الماء و دوره في الحياة والبيئة بشكل عام، وسواء ما تمثلته البشرية من ثقافة في الزمن الماضي، وما سنته من قواعد لحماية الماء والبيئة من كل تدهور وشطط، فإنه لازال أمامها الكثير لجعل الإنسان يقلع عن الكثير من السلوكات المدمرة للبيئة ..

 ويمكن القول على سبيل الختم ، أنه ما أحوجنا إلى وعي إيكولوجي بيئي ، متسلح بالعلم والمعرفة، وإلى ثقافة ايجابية وتربية فاعلة، وتفعيل القانون البيئي الذي هو عبارة على قواعد قانونية إنسانية ، هدفها حماية الانسان من الإضرار بنفسه وبغيره، من خلال خلق سياسة بيئية مندمجة للمحافظة على التوازن البيئي وتحقيق تنمية مستدامة لفائدة الجيل الحالي والأجيال المقبلة …

‏مقالات ذات صلة

Back to top button