‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د محمد فخرالدين: سيكولوجيا المال

هل هو عصب الحياة كما يقال، هل هو الحياة نفسها ولا حياة بدونه ، أم هو مفسد كبير يفسد بين الآهل والأصدقاء ـ إلا بغيتي توحش صاحبك سلفو ـ و قول الرحمن المجذوب : ياللي تعيط عيط و كون فاهم ، ما يفسد بين الحباب غير …….والدراهم .

سؤال المال حير الفلاسفة والمفكرين وعموم  الناس منذ القديم،  ففي حكاية سعد وأسعد في ليالي ألف ليلة تمت مناقشة علاقة المال بالسعادة، ويبقي المال من أهم الموضوعات في الحياة البشرية كما يؤكد هوستيل مورغان في كتابه علم نفس المال ..

رائحة المال :

الملاحظة الأولى هي أن المال يخلق حالة غريبة في حياة الإنسان وفي نفسيته، لدرجة أنه يخلق وعيا جديدا وإحساسا غريبا بالوجود والقوة، يجمع بين اللاوعي والوعي، ويعود بالإنسان إلى شعور قديم يشبه الإحساس بامتلاك العالم تحت قدميه، إنه قادر على تحويل البشر وتغيير أفكارهم، ونقلهم من حالة إلى أخرى، فليس عند البعض انتشاء أكثر وأبلغ البعض من الانتشاء برائحة المال وسماع رنين الذهب، وقل في الناس عبر التاريخ الذين لم يحولهم المال ويغيرهم ، ومن لم يمل إلى المال وأصحابه، على حد قول الشاعر : إن الناس قد مالوا إلى من عنده مال..

المال والتحول :

المال يحول المشاعر 360 درجة ـ فكم من محتاج عندما شبع مالا تحول إلى غول كاسر ، وفي التنزيل الكريم تحليل لنفسية المستغني : إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى، ولولا كسر الإنسان بالموت لرأينا العجب العجاب من سلوك ذوي المال، وكفى بالمرض والموت رادعين لحب الإنسان للمال حبا جما  ..

 إن إدراك أثر المال في النفوس أكثر من إدراك الحاجة إليه، وفهم أهمية المال في التأثير على مجموع الحياة وعلى الأفراد والجموع ، وإخضاع الغير من الأفراد والدول، هو السبب الرئيسي وراء ازدهار طبقة التجار عبر التاريخ كوسطاء بين المنتجين والمستهلكين، طبقة عقيمة كما سماها بعض الاقتصاديين، تستغل المنتج والمستهلك في نفس الآن ، وتكسب من الإثنين معا ، من المنتج بالتقليص من هامش الربح ، ومن المستهلك بالزيادة من قدر الإنفاق .

 وهي وضعية جعلتها تعي قيمة تجارة المال والترويج له كقيمة القيم .. إن المال يكسب المال ، فهي من خلال بيع المال والادخار المربح والاحتكار المريح  تراكم الأموال ، تتيح إمكانيات الاستثمار لربح المزيد وتحقق تراكم الرأسمال عن طريق مشاريع مدرة للربح السريع والمستمر والآمن من خلال التحكم في الأسواق وتقليص المنافسة والاحتكار والإبداع في التأمينات التي تدبر الأخطار والتمويل العقلاني الذي يجتنب الخسارة  ..

المال والخوف :

اذا كان المال بصفة عامة يؤدي إلى الشعور بالأمان فإنه أيضا يؤدي إلى الخوف، فكلما زاد الرصيد زاد الأمن وزاد الخوف في نفس الآن فالأخطار ليست فقط محلية ولكن قد تكون لها علاقة بما هو عالمي من تغير في الصرف أو قيمة البضاعة، إن حالة الخوف هذه كحالة الرجل الذي كان يذهب إلى البنك بعد إغلاقه ليضيف قفلا جديدا، يزيله في الصباح  الباكر قبل الافتتاح، ولما سئل لم يقوم بذلك، قال بغية المزيد من الاطمئنان على سلامة ماله الذي يودعه في البنك..

إن الحصول على المال يؤدي أيضا إلى الخوف من الفقدان وتغير الحال في نهاية الأمر والعودة إلى خط الفقر والحاجة ، وكلما جاء المال إلى صاحبه بسهولة كلما سارع إليه الخوف من الفقدان والزوال بنفس الطريقة ، لذلك يزداد بخل وشح صاحب المال إلى درجة الهوس.

إن الخوف مرتبط دائما بالمال والقلق من ضياعه ، فإذا كان المال يبني قناطر في البحر ويحقق رغبات صاحبه حتى المستحيلة منها، فإنه يورث الخوف والقلق كلما زادت الثروة، فالثروة كما يمكن أن تأتي بسبيبة وبأي سبب، يمكن أن تقطع سلاسل ولنا في ذلك التاريخ عبر لمن يعتبر ..

  إن المال قابل للزوال وقابل أن يميل إلى وجهة  أخرى وإلى وجه آخر، والانتقال من يد إلى أخرى في إطار السيولة  والتساوق والضياع  والخسارة ، وهو مهدد بالزوال بسبب موت صاحبه أو عجزه وتهور أحد الورثة..

والمال من جهة أخرى يغير نمط الحياة الإنسان فتصير أكثر دعة ويسرا واهتماما بالمظاهر والكماليات ، فيبدأ الإنسان المنتشي بالمال في الاهتمام الزائد بالذات وامتلاك صفات الأنانية والنرجسية واللغة الخاصة المتميزة .. بالتالي يصير هذا الأخير أقل قدرة على تحمل الفقر والخصاص وأقل قدرة على تحمل الفقدان والعودة إلى منطقة الصفر، لذلك يعيش هذا الأخير الخوف الدائم والثقة الزائدة في نفس الوقت في مزيج من المشاعر المتناقضة التي تجعله كائنا متشظيا ..

المال والغرور:

يؤدي المال الى الغرور والشعور بالتميز عن الآخرين، فبامتلاك الأشياء الثمينة المتفردة في نوع من السلوك الاستعراضي تمتلك الذات أناها الجديدة بما تكسب من أشياء ومقتنيات متميزة وما تزوره من أمكنة الحلم، ويكون المعنى الأساسي لهذا التواصل الغير اللفظي أن “الذو مالي” يستمد قيمته الشخصية من ما يشتريه في نوع من التماهي الوجودي للغني وما يملكه من أشياء فريدة ومن ألبسة ممضاة، من حيوانات ناذرة ومن بشر أشياء ، والجزء الثاني الأعمق من دلالة الخطاب هو الذي يقول صراحة إن باستطاعته شراء كل شيء، حتى الذمم و حتى الأخلاق ، فكل شيء بثمنه  ..

  من هذه الوجهة، يمكن أن يكون المال مفسدا للقيم الاجتماعية ، فالإيمان والشعور بقوة المال اللامحدودة محطم للإنسان أكثر من أي شعور آخر يؤدي إلى وهم الخلود والقدرة الخارقة ..فكيف يمكن أن يكون لمن  بإمكانه أن يشتري ما يريد وما يشتهي  أن يبقى مع ذلك متواضعا، خاصة إذا جاء المال بعد حرمان بالنسبة لحديثي النعمة فالشبعان يبقى شبعانا أربعين عاما ولو افتقر، والجوعان يبقى جوعانا أربعين سنة ولو أغتنى  ..

إنه يتعمق في نفسية الإنسان ليوسوس له. إنه من نوع آخر من باقي البشر، ومن ثم يتعامل كعرق خاص منعزل عن بقية المجتمع “بوزبال” كما ينعته ، ويؤدي المال في الكثير من الأحيان  إلى احتقار الآخرين خاصة الذي يتقربون من صاحبه من أجل نوال ما ، لذلك يتعمد صاحب المال إهانة هؤلاء ، وتسخيرهم وإذلالهم حتى يحقق ذاته وشعوره بالتميز   ..

المال والوقت :

المال يؤدي إلى شعور خاص بالزمن، وإلى قناعة وإدراك أن الوقت مال لا ينبغي أن يضيع هدرا ، حيث يوجد زمن يوجد مال، فالسلف مال في الزم ، ولا زمن بدون أو غير مقرون بمال، سواء في حال الإنفاق أو في حال الادخار والربح ، ومن تم عبارة كنضيع وقتي معاك، إن المال يعلم الربح في كل شي وبالتالي كل شيء أو غيره حتى البشر قابل للشراء والبيع ، شعاره  لا تربي كبدة على شيء إذا ظهرلك الربح ، إن المال من هذا المنظور يصير  عقيدة  تصل إلى درجة التقديس والعبادة ..عبادة الدرهم ..الذهب .

صاحب المال يرى الوقت مالا  يدر المال و يلده في الزمن، فالمال ينبغي توظيفه من الثانية واللحظة التي يكسب فيها أجل كسب المزيد من الأموال ..

المال والجشع :

يعلم المال الجشع والطمع، فرأس المال يطبعه جبان لا يقبل إلا الزيادة، انه جبان في الاستثمار والإنفاق الاجتماعي وأداء الأجور و في الموارد البشرية، طماع في الاستثمار ودخول الأسواق الخروج منها بأرباح طائلة، أليست السوق خدعة مثل الحرب وكل الطرق مباحة مادامت تؤدي إلى نفي الغاية  …والإنسان القنوع المتخلق الصادق لا مكان له في السوق، المال يطلب المال  بكل الوسائل ويبحث دائما عن طرق جديدة لاستجلابه، وفي هذه الأمور التجارية الأخلاق لا قيمة لها إلا كإشهار فقط إلا من باب التغطية كالمسبحة تماما في يد البائع  المشتاق للربح  ..

المال والاغتراب:

رغم وجوده داخل الجموع، صاحب المال يشعر في الغالب بالغربة فهو على علم تام بأن من يحيط به من مخالطين لا يأتون عنده لسواد عينيه، وإنما المال هو الذي يجذبهم إليه، و نتيجة لهذا الإدراك والوعي الشقي، ورغم كونه يعرف كيف يستغل الآخرين بالوعود والعهود ، فإنه لا يعطي شيئا مجانا ،. لذلك فهو يحتاج باستمرار إلى أن يخرق القاعدة ويبحث عن مخالطة نوع آخر من البشر مناقضا لهؤلاء ذوي المصلحة  ..

المال واللغة :

أبدعت اللغة في توصيف المال فسمته المادة و”القرمومة” و”القرطاس” …. وسمت ذوي المال بالبطون الكبيرة ..واختلط المال لغويا  بالأك ، وعضو أساسي من أعضاء الإنسان الذي هو البطن .. فقابلت بين الشبعان والجوعان، وصاحب البطن وغيره  ..جعلت صاحب المال فوق السلك وضاربها في “سطاش” ..

ومن أغرب العبارات التي صاغتها اللغة الشعبية في توصيف ذلك ، للتعبير عن كثرة المال “خانز فلوس” .. وهي عبارة تجمع بين المال والرائحة الكريهة ، وفي تعبير أخر أجرت مقارنة المال بالوسخ ، “عندو وسخ الدنيا” .

إن المال ينتج كلامه، لأن له لغته الخاصة وطريقته في التعبير، فهو الذي يحق له الكلام .. لأن كلامه مسموع وذو حجة وقابل للانتشار بسرعة بواسطة وسائل : “ادهن السير يسير” ، وهو واقع صاحب المال الذي يكون صوته مسموعا في المجالس ليس لكون صاحب فكر ، ولكن لاقتران رنين صوته بالدراهم، وكثير من أصحاب الأموال من يصير صوته رخيما خافتا من سماع  عد الأوراق و جرس الذهب الجميل ..

قد يوظف صاحب المال في لغته، صفة امتلاكه المال أكثر من المال لذلك يكثر في كلامه وسرده أسماء المقتنيات الجديدة وأساليب التعجب والتغريب التي لا تستقيم بغير المعاجم الأجنبية .

كما يكثر في لغته وخطابه الموجه لأتباعه ومريديه التسويف والوعيد والجوائز والإكراميات، وهي كلها كلمات وأعمال ترتبط عنده بزكاة المال التي لا مفر منها، لكنها في النهاية لا تعطى بدون مقابل ولو كان مقابلا معنويا كالتمجيد والمدح والإشهار ..

المال والثقافة:

لا يحب المال الثقافة بل يحاول فقط شراءها لتلميع صورته وتحويلها إلى استشهار ، ولا يحب العلم و التقنية إلا في حدود الاستفادة المادية، المثقف بالنسبة للمال كائن يشترى، ولأنه يقف أمام القافلة، ينبغي أن يذل غاية الإذلال وتمارس عليه الاهانة وتصير بضاعته في غاية الرخص والبؤس، ولم لا يتم إنتاج نوع من المثقفين يحبون الجوائز والمكافآت والمال أكثر من حبهم للثقافة والعلم  ..

المال والسياسة: 

يستطيع المال أن يخترق السياسة بسرعة لأنه يشتغل بمنطق السوق، ولأنه يرى وفي اعتقاده أن الكائنات السياسية هي كائنات هدفها كسب المال بطرق أسهل ودون مغامرة بالمال، كما بإمكانها أن تحول المبادئ إلى سلع تباع و يتصرف فيها لمن يدفع مالا مقابلها من الأعيان..

المال يجد منافذ بسهولة إلى السياسة، يجد تمثيله السياسي القوي ، ما دام هو القادر على التمويل وتحقيق الانجازات والبقية من خصومه السياسيين لا تملك في نظره إلا الكلام .. الهدرة ما تشري خضرة ..

المال والقانون :

يحاول المال أن يلتبس بالقانون، فهو في الحقيقة يرى أن القانون كما السياسة وجدا لخدمته، وهي قناعة راسخة في كل نظام مالي وذو أهداف مالية صرفة ..

 فالقانون في نظر المال ينبغي أن يكون مزدوجا، وأن يكون في خدمته ، فلا يعقل من منظوره أن يقف ذو المال وذو قلة المال في قفص اتهام واحد ، ما دام بقدر المساهمة المالية في المجتمع، ينبغي تحصيل الحظوة والامتياز ، لذلك يحاول المال أن يستغل كل أبواب القانون وحاجة المجتمع إلى المال، من أجل المعاملة الخاصة والتمييز في كل مجالات القانون من القانون الضريبي، حتى القانون التجاري والجنائي  … وهو يحب ويأمل أن تكون هناك قوانين خاصة لأصحاب الأموال تميزهم عن غيرهم، وهو أمر مفهوم من وجهة نظر السوق وإن كان بعيدا كل البعد عن ديموقراطية القوانين ومساواة المواطنين أمام القانون  ..

‏مقالات ذات صلة

Back to top button