‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د مصطفى عيشان: في رحاب الانتخابات.. سؤال الأغلبية الصامتة في زمن المشاورات الانتخابية (ج1)

في كل دورة انتخابية أو قبلها، تعود الدولة المغربية إلى فتح قنوات “المشاورات السياسية” مع الأحزاب، هذه السنة ستتولى وزارة الداخلية هذا الدور المركزي، باعتبارها الجهة المشرفة تقنيًا وإداريًا على تنظيم الاستحقاقات. وقد بدأ عبد الوافي لفتيت، وزير الداخلية، فعلاً جولة مشاورات مع قادة الأحزاب السياسية حول الإعداد للانتخابات المقبلة، في ما يبدو أنه تقليد راسخ ضمن ما يسمى بالمسار الديمقراطي التشاركي.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة، هو: من يُمثّل فعليًا في هذه المشاورات؟ وهل الأحزاب السياسية، بوضعها الحالي، قادرة على التحدث باسم الشعب المغربي بكل مكوناته، أم فقط باسم المنخرطين فيها؟ وكيف تُدار مشاورات مصيرية مع نخبة سياسية تمثل أقلية ناخبة، في وقت صارت فيه “الأغلبية السياسية الحقيقية” هي تلك التي تقاطع الصناديق وتعزف عن المشاركة؟

1. من يُستشار؟

المشاورات الانتخابية الحالية تنعقد كما لو أن الخريطة السياسية قائمة على تمثيلية قوية، في حين أن الأرقام تكذب ذلك. فوفق أرقام الانتخابات السابقة، بلغت نسبة المشاركة حوالي50% من الهيئة الناخبة، مما يعني أن أكثر من نصف المواطنين قرروا عدم الانخراط في المسار الانتخابي، إما بسبب فقدان الثقة في جدوى المشاركة، أو بسبب غياب البدائل السياسية المقنعة، أو لأسباب اجتماعية وثقافية أعمق.

بناءً على ذلك، فإن الأحزاب الحاضرة في طاولة المشاورات لا تمثل سوى الأقلية السياسية التي اختارت التصويت، وليس الشعب المغربي بكل أطيافه.

2. أزمة الشرعية التمثيلية

ما يثير القلق هو أن الدولة تواصل الاعتماد الحصري على “أحزاب تمثيلية” فقدت جزءًا كبيرًا من شرعيتها المجتمعية، بل إن بعض هذه الأحزاب لا يتجاوز عدد أعضائها بضع مئات أو آلاف في أحسن الأحوال، مقارنة بقاعدة شعبية بالملايين. بذلك، تصبح المشاورات نوعًا من الحوار داخل حلقة مغلقة، تفتقد إلى التفاعل مع “الأغلبية الصامتة”، أي تلك الكتلة الواسعة من المواطنين الذين لا ينتمون إلى أحزاب ولا يصوتون، ولكنهم معنيون بتأثير السياسات العمومية.

3. من يتحدث باسم غير المصوتين؟

غياب منابر تمثيلية حقيقية لمن لا يشاركون في الانتخابات يطرح معضلة ديمقراطية واضحة. فالمؤسسات التمثيلية تتحدث باسم “الشعب”، ولكن أيّ شعب هذا؟ هل هو الشعب المفترض في الخطابات الرسمية، أم هو فقط من صوت وأعطى الشرعية لصناديق الاقتراع؟ وما الميكانيزمات البديلة الممكنة لإشراك غير المصوتين في المشاورات؟ هل نحتاج إلى آليات استشارية جديدة؟ مجالس تشاورية؟ منصات رقمية لإبداء الرأي؟ أم علينا إعادة النظر في نموذج الوساطة السياسي برمّته؟

4. دور الدولة: بين التحييد والإقحام

وزارة الداخلية، كمؤسسة دستورية تقنية وأمنية، تجد نفسها في موقع سياسي حساس، إذ تتولى مهمة تنظيم الانتخابات من جهة، والتنسيق مع الفاعلين السياسيين من جهة أخرى. لكن حصر المشاورات في الأحزاب دون التوجه إلى ممثلي المجتمع المدني، والنقابات، والجامعات، والشباب، والنساء، والفئات المهمشة، يعمّق من الشعور بالإقصاء، ويعزز الانطباع بأن “اللعبة الانتخابية” لا تعني الكثيرين نحو ديمقراطية أكثر شمولًا تستلهم المثقف الفاعل

إذن ، إذا كنا نقرّ أن الديمقراطية لا تقتصر على التصويت فقط، بل تشمل المشاركة المستمرة والرقابة والمساءلة والتعبير، فإن مشاورات الدولة مع الأحزاب في سياق التحضير للانتخابات يجب أن تتسع لتشمل فاعلين غير حزبيين يمثلون جزءًا من “الشعب الغائب”.

لكن تجديد المشهد السياسي لا يمكن أن يتم دون انخراط المثقفين بصفتهم فاعلين نقديين واستشرافيين. فالمثقف، حين يستعيد صلته بالسياسة كمجال للصراع الرمزي والبناء الجماعي، يصبح أداة استراتيجية لإعادة هيكلة التصور العام للانتخابات ولمفاهيم التمثيل والدولة. وفي هذا السياق، نقترح ما يلي:

1. عقد ندوات جهوية متزامنة حول الانتخابات في الجهات الاثني عشر:

بدل أن تظل النقاشات محصورة في الرباط أو محصورة في الدوائر الحزبية، يمكن تنظيم ندوات جهوية في كل جهة مغربية في نفس التوقيت، بشراكة بين وزارة الداخلية، والمجالس الجهوية، والجامعات، ومراكز الفكر، والجمعيات المحلية. هدف هذه الندوات هو إشراك المواطن في تقييم السياسات الانتخابية، وتقديم مقترحات عملية لتحسين الشفافية والتمثيلية.

2. تجديد تمثل البرلمان عبر تصور “ثالوثي” مغربي:

بدل البنية التقليدية التي تستنسخ نماذج غربية في الاصطفاف الحزبي(أغلبية /معارضة)، يمكن التفكير في إعادة هيكلة البرلمان ليضم ثلاث كتل سياسية واضحة (يمين – وسط – يسار) تُشكَّل وفق اختيارات سياسية وفكرية لا فقط انتخابية، بما يمنح وضوحًا أكبر للناخب، ويحرر البرلمان من الغموض التحالفي الذي يطبع المشهد الحالي. هذا الاقتراح لا يُقصي أحدًا، بل يعيد ترتيب التمثيلية حول مشاريع وبرامج، ويجعل للمثقف دورًا في بلورة المرجعيات لا فقط في تأطير الحملات.

كل فئة حزبية تتنافس على ثلث مقاعد البرلمان وفقا لتوجهها الأيديولوجي : اليمينيون واليساريون والوسطيون من خلالهم تشكل حكومة وطنية ثالوثية

3. مراجعة وتبويب اللوائح الانتخابية:

هناك حاجة ملحة لمراجعة شاملة للوائح الانتخابية، تتجاوز الطابع الإداري البحت، نحو قراءة سوسيو-سياسية للهيئة الناخبة. المقصود هنا ليس فقط تحيين المعطيات، بل أيضًا تصنيفها وتبويبها بما يسمح بفهم توجهات الامتناع، ودوافع التصويت، وطبيعة الكتل الناخبة حسب الفئات العمرية والاجتماعية والثقافية، مما يفتح المجال لسياسات عمومية انتخابية أكثر ذكاء وفعالية بإعطاء معامل لكل نوع من الناخبين(صوت أمي لا يجب أن يساوي صوت غير أمي…).

4. معالجة مشكل تهريب المنتخبين:

عادة مباشرة بعد الانتخابات يتم جمع الفائزين في گيطوهات (فنادق، فيرمان…) إلى غاية يوم تشكيل مكتب الجماعة أو…وهي ظاهرة مشينه للعملية الانتخابية

بهذه الرؤية، يتحول المثقف من مجرد مراقب أو ناقد من خارج اللعبة، إلى مشارك في صياغة شروط اللعبة ذاتها. إنها دعوة لإعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين السياسة والفكر، بين التمثيل والواقع، حتى لا تظل الأغلبية الصامتة مجرد رقم يُتجاوز كل خمس سنوات.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button