
يشكّل مفهوم الصحافي إحدى الركائز الأساسية لفهم العلاقة بين الإعلام والديمقراطية. فالمجتمعات لا تُقاس بدرجة انفتاحها الاقتصادي أو الثقافي فحسب، بل بمدى حرية من يكتب عنها وينقل صورتها للناس.
الصحافي ليس مجرد ناقل للأخبار، بل هو وسيط في صناعة الوعي الجماعي، وصوتٌ بين السلطة والمجتمع. ومع التحولات التكنولوجية وصعود جيل Z، تغيّرت معالم هذه الوظيفة جذريًا، ليتحوّل الصحافي من موظف في غرفة التحرير إلى فاعل في فضاء عام مفتوح ومتقلب.
تهدف هذه الورقة إلى تحليل دلالة مصطلح الصحافي لغويًا ومفاهيميًا، واستحضار مساره في الدولة الديمقراطية، ثم رصد تحوله في السياق المغربي من «السلطة الرابعة» إلى «السلطة الخامسة».
أولًا: الأصل اللغوي والدلالي
اشتُق مصطلح الصحافي من الصحيفة، أي الورقة المكتوبة التي تُسطّر فيها الأخبار والوقائع.
وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم بمعنى الكتاب أو السجل، كما في قوله تعالى:
﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ﴾ [عبس:13].
ومع تطور الاستعمال، صار «الصحافي» يدل على من يشتغل بالصحافة، أي من يجمع الأخبار وينقلها ويحللها، فأصبحت الكلمة تعني المهنة التي تُعنى بإنتاج المعلومة ونشرها للرأي العام.
ثانيًا: الصحافي في الدولة الديمقراطية
في الدولة الديمقراطية، يُنظر إلى الصحافي بوصفه فاعلًا مدنيًا يتوسط بين المجتمع ومؤسسات الحكم.
دوره يتجاوز نقل الوقائع إلى مراقبة السلطة ومساءلتها باسم الحق في المعرفة.
ويُعرف الإعلام في هذا السياق بـ السلطة الرابعة، لأنه يسهم في حفظ توازن السلط عبر كشف الانحرافات وتنوير الرأي العام.
لكن هذا الدور لا يتحقق إلا بوجود استقلالية مهنية ومؤسساتية تحمي الصحافي من هيمنة السلطة السياسية أو الاقتصادية، لأن حرية الصحافة ليست منحة، بل شرط لقيام الديمقراطية نفسها.
ثالثًا: في السياق المغربي
عرفت مهنة الصحافة في المغرب تحولات كبرى منذ الاستقلال:
• في الستينيات والسبعينيات، ارتبط الصحافي بصورة المثقف المناضل، حامل رسالة التغيير في ظل صرامة الرقابة السياسية.
• في التسعينيات، بدأ التحول نحو الصحافة المستقلة، التي أسهمت في توسيع الهامش الديمقراطي وتكريس حرية التعبير.
• أما في الألفية الثالثة، فقد أعادت الثورة الرقمية تشكيل الحقل الإعلامي بالكامل، حيث ظهر ما يُعرف بـ الصحافي الرقمي والصحافة المواطِنة، اللذان تحدّيا احتكار المعلومة من طرف المؤسسات التقليدية.
وهكذا، لم يعد الصحافي يشتغل فقط من داخل المكاتب التحريرية، بل صار يتقاسم الفضاء العمومي مع المواطن العادي الذي يوثق الأحداث مباشرة من الشارع أو من هاتفه.
رابعًا: من السلطة الرابعة إلى السلطة الخامسة
أدى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي إلى بروز مفهوم السلطة الخامسة، أي الإعلام الشبكي والمواطني الذي يمارسه الأفراد خارج الهياكل الرسمية.
هذا التحول جعل من كل مواطن صحافيًا محتملًا، ومن الفضاء الرقمي ميدانًا مفتوحًا للمساءلة الشعبية.
في المغرب، تجلّت السلطة الخامسة في انتشار صفحات رقمية ومؤثرين يقومون بدور رقابي فعّال، يُسائلون المسؤولين ويُحرجون المؤسسات الرسمية أحيانًا أكثر مما تفعل الصحافة الكلاسيكية.
لكن هذا الانفتاح ترافق مع أزمة مصداقية، إذ تداخلت المعلومة بالشائعة، وتراجعت المعايير المهنية أمام منطق “السبق” و”التريند”، مما أضعف التمييز بين الصحافة كوظيفة مدنية والصحافة كوسيلة ضغط أو شهرة.
خامسًا: الصحافي بين الدولة وجيل Z
يشهد المغرب اليوم فصلًا جديدًا في علاقة الصحافة بالمجتمع مع صعود جيل Z، الذي يوظف الفضاء الرقمي للاحتجاج والمساءلة.
فلم يعد الصحافي وحده من يمتلك سلطة الخبر، بل أصبح ينافسه المواطن الذي يوثّق الأحداث وينشرها فورًا، ليحوّل العالم الرقمي إلى مجلس محاسبة افتراضي مفتوح أمام الجميع.
في هذا المناخ، يواجه الصحافي ضغطين متوازيين:
• من الدولة التي تطالبه بالانضباط للقانون والضوابط المهنية،
• ومن الجيل الرقمي الذي ينتظر منه الجرأة والاصطفاف إلى جانب الناس.
بهذا المعنى، لم تعد مهنة الصحافة مجرّد نقل للحدث، بل تأويل له داخل صراع رمزي جديد بين الحقيقة الرسمية والحقيقة الشعبية.
فالصحافي الناجح اليوم هو من يوازن بين المصداقية والمواكبة، ويظلّ قريبًا من نبض الشارع دون أن يفقد استقلاله.
جيل Z لا يقرأ الجريدة، لكنه يحاسب الصحافي كما يحاسب الوزير، ويقيس نزاهته بمسافة قربه من الواقع، لا من المكاتب التحريرية.
سادسًا: نقد وتحليل
تعيش الصحافة المغربية اليوم أزمة هوية مزدوجة:
• أزمة الثقة في الصحافة المهنية، بسبب التبعية السياسية أو الاقتصادية،
• وأزمة الفوضى في الصحافة الرقمية، بسبب غياب التأطير والأخلاقيات.
لكن بين هذين القطبين تولد فرصة تاريخية: إعادة تعريف الصحافي بوصفه فاعلًا في هندسة الوعي الجماعي، يجمع بين دقة المهنة وحيوية المواطن.
ذلك أن مستقبل الصحافة في المغرب لن يُبنى على الصراع بين الإعلام التقليدي والجديد، بل على قدرتهما معًا في خدمة المصلحة العامة وحماية الحق في المعلومة.
ونأخذ بيعين الاعتبار تراجع المهنة بما احدثته وسائل التواصل الاجتماعي، اذ لم يعد الصحافي، في زمن الصورة السريعة، يسعى إلى الحقيقة بقدر ما يسعى إلى السبق. ومع التحوّل إلى ثقافة الشهرة والتشهير ، بدأت الحدود الأخلاقية والمهنية تتآكل، ليولد من رحم الصحافة التقليدية كائن جديد: الصحافي–الباباراتزي
يتعامل مع المادة الإعلامية كـ سلعة عاطفية تستدرّ الغرائز لا العقول، فيغدو الحدث الخاص أهم من الحدث العام، والحياة الشخصية للمسؤول أكثر جاذبية من سياساته العامة.
إذن ، الصحافي، في جوهره، شاهدٌ على عصره وصانعٌ لوعي مجتمعه.
من الصحف الورقية إلى المنصات الرقمية، ظلّ يحمل عبء الحقيقة ومسؤولية الكلمة.
غير أن تحوّل الإعلام المغربي من فضاء النخبة إلى فضاء المشاركة الواسعة يفرض إعادة التفكير في موقع الصحافي، لا كمجرد ناقل للخبر، بل كفاعل ثقافي وديمقراطي يربط بين الدولة والمجتمع.
فحين تُصان كرامة الصحافي، تُصان كرامة المواطن، وحين يُخنق صوته، تضعف قدرة الديمقراطية على سماع نفسها