
ـ الدكتوراه بوصفها عبوراً نحو الوعي الجديد ـ
يأتي قرار وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، عز الدين ميداوي، القاضي بإضافة دبلوم ضابط مهندس الدولة المسلم من المدرسة الملكية الجوية ودبلوم التخصص في الصحة العمومية والتدبير الصحي المسلم من المدرسة الوطنية للصحة العمومية إلى قائمة الشهادات الوطنية المؤهلة لولوج سلك الدكتوراه، في سياق دينامية إصلاحية أوسع تشهدها المنظومة الجامعية المغربية منذ مطلع العقد الثالث من الألفية الثالثة.
هذا القرار، من الناحية الشكلية، يُعدّ تتميماً للقرار الوزاري رقم 140.09 الصادر سنة 2009، ومن الناحية الموضوعية يمثل تحولاً في فلسفة الاعتراف الأكاديمي بالشهادات المهنية والتطبيقية، بوصفها مداخل شرعية إلى فضاء البحث العلمي المتقدم. فالمسعى لا يقتصر على توسيع الولوج إلى الدكتوراه، بل يتجاوزه إلى إعادة تعريف مفهوم الكفاءة البحثية بما يربط بين المعرفة النظرية والخبرة الميدانية.
البعد البنيوي للقرار
يعكس القرار وعياً متنامياً لدى الوزارة بضرورة تكامل أنماط التكوين الأكاديمي والمهني، انسجاماً مع التحولات العالمية في أنظمة التعليم العالي التي لم تعد تفصل فصلاً قاطعاً بين المعرفة الصرفة والمعرفة التطبيقية. فإدماج دبلومات عسكرية وصحية في سلك الدكتوراه يترجم إرادة لإنتاج معرفة وظيفية تسهم في خدمة الدولة والمجتمع عبر ربط البحث العلمي باحتياجات القطاعات الحيوية، مثل الأمن الوطني والدفاع والصحة العمومية.
غير أن هذا الانفتاح يطرح سؤالاً محورياً حول قدرة الجامعة المغربية على استيعاب هذا التنوّع في الخلفيات التكوينية، دون الإخلال بصرامة المعايير الأكاديمية التي تميّز البحث العلمي عن التكوين المهني. ذلك أن الدكتوراه ليست امتداداً تقنياً للدراسة، بل فضاء لإنتاج المعرفة الأصلية وبناء نماذج فكرية أو تطبيقية جديدة.
الدلالات المعرفية والإبستمولوجية
من زاوية فلسفة التعليم، يمكن قراءة القرار كجزء من انتقال أوسع من نموذج “الجامعة النخبوية” إلى نموذج “الجامعة الشاملة” التي تسعى إلى دمقرطة المعرفة ودمج مختلف أشكال الخبرة في إنتاجها. إنه نوع من الاعتراف المعرفي بالخبرات الميدانية كأشكال من الرأسمال العلمي، في مقابل التصور التقليدي الذي يحصر القيمة في التكوين النظري وحده.
لكن هذا الاعتراف يحتاج إلى تأطير إبستمولوجي صارم يضمن ألا تتحول الجامعة إلى فضاء لتكريس الشرعية الإدارية بدل العلمية. فالمطلوب هو تحويل الخبرة المهنية إلى موضوع بحث علمي قابل للمساءلة والنقد والتحليل، لا مجرد وسيلة رمزية للانتماء إلى النخبة الأكاديمية.
الأبعاد الاستراتيجية والسياساتية
يأتي القرار كذلك في إطار سعي الدولة المغربية إلى تثمين الرأسمال البشري العسكري والصحي، وفتح قنوات جديدة للتكوين المتقدم في مجالات تمس الأمن القومي والسياسات الصحية. وهذا ينسجم مع منطق الدولة الحديثة التي تربط بين البحث العلمي والتنمية الوطنية، بما يجعل الجامعة فاعلاً استراتيجياً في إنتاج المعرفة ذات الأثر العمومي، لا مجرد مؤسسة للتلقين الأكاديمي.
ومع ذلك، فإن نجاح هذا التوجه مرهون بإعادة هيكلة سلك الدكتوراه نفسه، عبر، ضبط معايير الانتقاء الأكاديمي؛ وتعزيز التكوينات المنهجية والبحثية؛ وضمان إشراف علمي عالي الجودة؛ وتوجيه الأبحاث نحو قضايا ذات جدوى علمية ومجتمعية. وبدون ذلك، سيظل القرار خطوة شكلية في غياب مشروع إصلاحي متكامل يعيد تحديد وظيفة الدكتوراه في المغرب بوصفها رافعة للمعرفة والإبداع والابتكار.
أفق النقد والتقويم
يُحسب للوزارة انفتاحها على مقاربات جديدة، لكن التحدي الأكبر يكمن في تحقيق التوازن بين الانفتاح والجودة. فكل توسع غير مؤطر بمعايير علمية صارمة قد يؤدي إلى تضخم كمّي على حساب العمق النوعي في البحث العلمي. لذا فالمطلوب ليس فقط إدراج دبلومات جديدة، بل بناء منظومة تقويم وتدبير معرفي تجعل من الدكتوراه مجالاً لتوليد الفكر والإبداع، لا لتكريس الامتياز البيروقراطي.
إن قرار الوزير ميداوي يفتح باباً جديداً في علاقة الدولة المغربية بالمعرفة الأكاديمية، ويعكس إرادة سياسية لتوسيع قاعدة البحث العلمي وتثمين الرأسمال البشري المتخصص. لكنه في الآن ذاته يضع الجامعة أمام رهان الارتقاء بالمضمون العلمي وتحقيق التكامل بين “المعرفة” و“الخبرة” دون الوقوع في اختزال أحدهما بالآخر.
إن الإصلاح الحقيقي للتعليم العالي لا يُقاس بعدد الأبواب المفتوحة، بل بمدى تجديد شروط الدخول إليها، وبالقدرة على جعل الدكتوراه مجالاً لإنتاج الوعي العلمي لا لتوزيع الشهادات.
خاتمة: إن ما يلوح في الأفق من خلال هذا القرار ليس مجرد تعديل إداري في لوائح الشهادات، بل إشارة رمزية إلى تحوّل في وعي الدولة المغربية بدور المعرفة. فالمعرفة لم تعد تُختزل في الشهادة أو في الرتبة، بل غدت قوة حضارية تتجسد في قدرة المجتمع على تحويل خبراته العملية إلى فكر، وتحويل فكره إلى مشروع.
إن إدماج التخصصات العسكرية والصحية في فضاء البحث العلمي يعكس وعياً متقدماً بوحدة الجسد الوطني والمعرفي، حيث تصبح الجامعة امتداداً لمؤسسات الدولة، وتغدو الكفاءة التقنية مجالاً للإنتاج النظري لا مجرد أداء وظيفي. في هذا المعنى، تتحول الدكتوراه من مجرد محطة أكاديمية إلى فضاء للعبور من التقنية إلى الحكمة، ومن التخصص إلى الرؤية الكلية التي تنشد توازن الإنسان والمعرفة والمجتمع.
لقد آن الأوان لأن نعيد النظر في مفهوم البحث العلمي بوصفه جوهر السيادة المعرفية ومحرّك النهضة، لا مجرد شرط للترقي المهني. فالمجتمعات التي تدرك أن المعرفة ليست أداة بل قدر وجودي، هي وحدها القادرة على مواجهة تحولات العصر، وصياغة مستقبلها وفق منطق الفعل لا التلقي.
ومن ثمّ، فإن خطوة الوزير ميداوي، في عمقها الرمزي، تُعبّر عن بداية انتقال من إدارة الشهادات إلى تدبير المعنى؛ من منطق البيروقراطية التعليمية إلى أفق بناء الإنسان الباحث، الذي يُدرك أن الدفاع عن الوطن لا يكون فقط في الميدان، بل أيضاً في مختبر المعرفة ومجال الفكرة.