
(كش بريس/ باريس من حلعود ميلود)ـ شهدت باريس، أمس الأربعاء، عودة لافتة للرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي إلى الواجهة السياسية والإعلامية، عبر تنظيم أولى جلسات توقيع كتابه الجديد “يوميات سجين”، الذي يوثّق فيه تفاصيل العشرين يوماً التي قضاها داخل سجن “لا سانتي” بعد إدانته في قضية التمويل الليبي لحملته الرئاسية لعام 2007.
اختار ساركوزي مكتبة “لامارتين” الراقية بالدائرة السادسة عشرة، وهي منطقة دالّة رمزياً على نخبة باريس المحافظة، ليُطلّ على جمهوره للمرة الأولى منذ الإفراج عنه ووضعه تحت الرقابة القضائية.
اللقاء تحوّل سريعاً إلى حدث جماهيري، إذ احتشد مئات من أنصاره لساعات للحصول على توقيع الكتاب، في مشهد يكشف جانباً من الانقسام العميق داخل الرأي العام الفرنسي بين من يراه ضحيةً للعدالة الانتقائية ومن يعتبره رمزاً لفساد سياسي مزمن.

لكن الحضور الحاشد عرف لحظة توتر حين اقتحمت ناشطتان نسويتان المكان وهتفتا بعبارة ساخرة مستحضرة شريطاً قديماً من سلوك ساركوزي السياسي: “ارحل أيها المسكين الأحمق”. تدخل الأمن بسرعة، وكأن المشهد برمّته جزء من سيناريو انتخابي مستعاد، يعيد تدوير رمزية الرجل وماضيه المثير للجدل.
القضية التي قلبت حياة الرئيس الأسبق تعود إلى 25 شتنبر، تاريخ الحكم الابتدائي الذي قضى بسجنه خمس سنوات مع تنفيذ فوري، وغرامة 100 ألف يورو، بعد اعتبار المحكمة أنه سمح لمعاونيه بالتواصل مع نظام القذافي للحصول على تمويل سري لحملة 2007.
ساركوزي، الذي استأنف الحكم، ينتظر جولة جديدة من المحاكمة بين مارس ويونيو المقبلين، فيما يصرّ على أن القرار القضائي نابع من “كراهية” سياسية أكثر مما هو مبني على وقائع قانونية.
دخوله السجن في 21 أكتوبر وخروجه في 10 نوفمبر تحت الرقابة القضائية لم ينهيا الجدل، بل دفعاه إلى الاستثمار في خطاب الضحية. وقد مهّد لصدور كتابه الجديد عبر منصة “إكس”، موحياً بأن التجربة كانت لحظة تأمل وجودية كتب فيها: “في السجن لا شيء يُرى ولا شيء يُفعل… الضجيج يعزّز الحياة الداخلية للإنسان كما يعزّزها صمت الصحراء”.
الكتاب، الذي صدر عن دار “فايار” المملوكة لقطب الإعلام اليميني فنسان بولوريه، تصدّر الطلب المسبق على “أمازون”، متقدماً حتى على أحدث إصدارات سلسلة “أستيريكس”—وهو ما يشي بأن ساركوزي لا يزال يمسك بخيط التأثير في مخيال اليمين الفرنسي، سواء أعادته السياسة أم بقي في دائرة السرد الذاتي.

عودة ساركوزي عبر “قصة السجن” ليست مجرد محاولة لتبييض صفحة قضائية، بل تدخل في دينامية أعمّ يحاول فيها اليمين الفرنسي إعادة بناء خطاب المظلومية السياسية في مواجهة القضاء والإعلام. إنها لعبة قديمة جديدة: تحويل المحاكمة إلى منصة للعودة، وإعادة صياغة الذات السياسية من موقع “المنفي العائد”.
لكن بين هتافات المساندين واحتجاجات المعارضين، تبقى الحقيقة معلّقة بين قاعة المحكمة وصفحات كتاب، بينما فرنسا نفسها تعيش انقلاباً عميقاً في علاقتها برموز الجمهورية وبمفهوم المساءلة السياسية.





