لحظة تفكير

أذ/أحـمـد الـشَّـهـاوي*: المَرْضَى بالحَسَدِ بين الكُتَّاب والشُّعراء

بدايةً لم أرُد مرَّةً واحدةً في حياتي على شخصٍ شتَمنِي ، فقط آخذُ مسافةً بيني وبينه ، ولا أراهُ ثانيةً ، حتى لو اعتذر ؛ لأنَّ شتيمتَهُ كانت مُوجَّهةً نحو شخصِي ، ولم يقُم بنقدِ أو حتى نقضِ نصٍّ لي .

ثانيًا : أنا ممَّن يروْنَ التجاهلَ مع هؤلاء الشتَّامين فضيلة ، ينبغي أن يتحلَّى بها أهلُ الحَرْف ، إذا نبح أحدُهم عليه ، فقد تعلمتُ في قريتي كفر المياسرة أنكَ إذا جريتُ أمام كلبٍ يهجمُ عليكَ نابحًا ، سيعضُّكَ ، أما إذا توقفتَ ونظرتَ في عينيه ، سيتوقفُ عن النباح ، وسيتراجعُ عن العضِّ ، وكم من كلابٍ نبحَتْ عليَّ ، ولم ألتفت إلى صوتِ نباحها ، أو أتوقَّف لأعرفَ ماذا تقيَّأتْ .

ثالثًا : لستُ ممَّن يُجَرُّون إلى ” معركةٍ ” مع عابرٍ أو جاهلٍ من بين أهل الكتابة ، لأنه يريدُ أن يكون خصيمي ، وأنا تعوَّدتُ أن أختارَ خُصُومي ، كما أنَّني صرتُ زاهدًا في كلِّ شيءٍ ، ولم يعُد يشغلني من سنواتٍ بعيدةٍ سوى القراءة والكتابة ، والجلوس بين يدي من أحبُّ .

رابعًا : كما أنَّ في الحياة بلطجية وقاطعي طريق يشوِّشُون ويشوِّهون ويرتزقون ، فالحياة الثقافية لا تخلُو من قُطَّاع الطُّرق ، والهجَّامين، الذين يتمنُّون أن يحصلوا على ما في يدِ الآخرين ، يحسدونهم على كتاباتهم ، مع أنَّ هذا الحسد يأكلُ الحاسدَ ويفتِّت كبدَه ، ويجعله متليِّفًا حدّ الموت . فالحسد عندي إثمٌ ، لا اسمَ له سوى الحسد ، وهو غير السُّخط الناتج عن غضبٍ مشرُوعٍ أو غير مشرُوعٍ من الناجح والمُتحقِّق . والرَجُلٌ الحاسِدُ كما جاء في القاموس هو ” مَنْ يَتَمَنَّى زَوالَ نِعْمَةِ غَيْرِهِ ، وَيَشْعُرُ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ بِالحَسْرَةِ ” .

خامسًا : آمنتُ – عبر تجربتي – أنَّ السِبَاب لا يهدمُ ، بل يبنِي ويحرِّضُ ، ويجعل المسبُوب أو المشتُوم في تحدٍّ مع نفسه ومع من حوله ؛ آخذًا نفسه بصرامةٍ وشدَّةٍ في كلِّ ما تفعلُ يداه .فلا شيءَ في هذه الحياةِ يستحقُّ أن تنفقَ ماءَ وقتِكَ في جسدِ الحسد ، إذ كل شيءٍ يمرُّ ، ولن يعُود عليكَ بالنفع ، سواء كرهتَ ، أو بغضتَ ، أو أكلت الغيرةُ والضغينة قلبكَ ، وجعلت نار الحقد تحرقُ رُوحكَ ، لأنه بعد أن تصيرَ رمادًا من الغِلِّ ، لن تستطيعَ كتابةَ شيءٍ يستحقُّ القراءةَ ، أو التوقُّف أمامه اليوم أو بعد حينٍ من الدَّهرِ ؛ لأنَّ الخلْقَ في الكتابةِ لا يأتي إلَّا من أصحاب النفوس السليمةِ لا المنحرفة ، والقلوب الصافية لا المكفهرة ، والأرواح الشفيفة لا التي تشربُ ماءً آسنًا عطِنًا . والحسد – الذي هو عندي خطيئةٌ لا تُغتَفر ، ورذيلةٌ من أشدِّ الرذائل التي تصيبُ الإنسان – هو الجُزء المظلم من قمر الكائن ، عندما تظلمُ نفسه ويكفهرُّ ، وتُعْمى عيناهُ عن رُؤية الحقِّ ، وتسْوَدُّ رُوحه ، ولا تعُود ترَى إلا كل ما هو باطلٌ وشرٌّ في الآخر الذي يحسدُهُ ، وربما كان يحبُّهُ يومًا ما ، واصطفاهُ من بين الناس .وأنا مِمَّن يشفقُون على هؤلاء الحسَدَة ؛ فمنذ أن قتل قابيل أخاه هابيل بسبب الغيرة ، ومنذ أن حسد إبليس آدم ، والدنيا لا تخلو من الحسدِ ، الحسد على المال والجمال والكمال والجلال والكتابة والموهبة ، وكل مفردات الحياة التي تنغِّص نفسَ الحاسدِ وقديمًا قيل إنَّ : «الحُب لا يعرفُ الحسد» ؛ فالحسد يدمِّر خلايا الحسُود ، الذي صارَ مريضًا بالحسد ، بعد أن يتلفها يومًا إثر يومٍ .ونحن – كما جاء في سُورة الفلق نتعوَّذُ من الحسد : ” وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ” .فلماذا يتحاسدُ الشُّعراءُ والكُتَّابُ ؟ وعلى ماذا ؟من يحسد يرى نفسه أقل شأنًا ممَّن يحسدُهُ ؛ كأنَّ الناجحَ في الكتابةِ مثلًا يوبِّخ غيرَ المتحقِّق فيها ، خُصُوصًا إذا كان المحسُودُ والحاسدُ مُتجايليْن أي من الجيل نفسه ، أو من العُمر ذاته ، أو من البلد عينه . ف«المساواة والتماثل يخلقان الوئام» كما يشيرُ أرسطو ‏( 384 ق.م – 322 ق.م ).

وفي سِفْر أيوب نقرأ أنَّ : «الغيرة تُميتُ الأحمق» . ولذا يتمنَّى الحاسدُ – الذي يُسمِّم نفسه بحسدِه – زوالَ ما عند المحسُود الذي يراهُ عدوًّا له ، فيُشوِّه صُورته ، ويسيِّبُ عليه كلابَهُ الضَّالة ، ويرهق نفسه في إيذائهِ ، وهو في الحقيقةِ لا يؤذِي إلَّا نفسه . بدلا من أن يُحسِّنَ أداءَهُ ، وينشغلَ بصنعته ؛ فالمشغول بآلته لن ينصتَ إلى الضَّوضاء من حولهِ ، فقط سيواصلُ العزف .عليك أن تقرأ وتكتبَ ، وتُرضِي نفسكَ أولًا قبل أن تُرضِي أحدًا سواك ، لا تنتظر مالًا ، ولا سلطانًا ، ولا جاهًا ، ولا وجاهة اجتماعية ، ولا شُهرة مؤقَّتة سرعان ما تزولُ ، ويذوي وهجها ، ولا … فالكتابة وحدها تُغْنِي الرُّوحَ ، وتُعْلِي النفسَ ، وتجعل الإنسان في عليين بعيدًا عن غبار الإسفاف والتشاتُم والتسابُب .الكتابةُ التي ستبقى بعد مصفاة الزَّمن هي التي لا تعوِّلُ على روافع من خارجها ، أو تتكئ على منصبٍ ، أو تبحثُ عن قيمٍ مُضافةٍ تسندها ، الكتابة وحدها هي من تقاومُ عوامل الزمن ، وهي من تقدم نفسها ، والحُكم في الأخير لمن سيبقى نصُّه بعد موت صاحبه .لا تظن أنكَ ستكُون مُعرَّفًا بألف لام التعريف لو سبَبْتَ فلانًا من الشُّعراء ، بل ستبقى نكرةً صغيرةً مُوغلةً في كتابِ النسيان ، مُهمَلةً تحاولُ أن تبحث لنفسها عن تعريفٍ ، ولن تنجحَ ما دامت نفسكَ قد خربت وامتلأت صديدًا ، ونخرَها السُّوسُ ، كأنها عصا تُركتْ في العراء ؛ حتى أكلتها الأرضة وتهالكتْ ، وأبانتْ وجهك الكئيب. فعصاك ليست عصا موسى التي ضرب بها الحجر فانفجر منه الماء ، كما ضرب بها البحر فانفلق ؛ كي يعبر قومه البحر الأحمر ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ، قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ، فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ، قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ) . و” الذي اتهم ديكارت بالإلحاد كان مريضًا بالعصارة السوداء ” ، ويقول ديكارت (31 من مارس 1596 – 11 من فبراير 1650ميلادية ) : «يُحفِّز ذاك الحسد العُصارة الصفراوية ، التي تأتي من الجزء الأدنى من الكبد ، والعُصارة السوداء التي تأتي من الطُّحال ، المنتشرة من القلب عبر الشرايين … إلخ.» ، وما أكثر السَّواد في نفوس وقلوب الحاسدين .الحسُود ذو العقل الصغير ، والنفس الضعيفة ، لا مواهبَ له سوى الحسد والحقد على من هم أعلى منه ، وأكثر منه تحقُّقًا ، ودائمًا لا يرى ما في يده ، بل ينظرُ إلى ما يمتلك الآخرون .الحاسدُ مريضٌ وفي محنةٍ كبيرةٍ ، ومعاناةٍ شديدةٍ ، ويحتاج إلى علاجٍ عاجلٍ وناجعٍ كي يشْفَى ، أو على الأقل كي يخفَّ مرضُهُ العضال المزمن . اقتربتُ من كثيرين دقَّت الطبولُ رؤوسهم ، ونالهم تهجُّمٌ من الرِعاع وصغار النفوس ، ولم يردُّوا أو يتأثروا ، بل واصلوا تجاربهم ومغامراتهم في الكتابة ، من دون أن يلتفتوا إلى صغيرٍ أو وضيعٍ ، ممن يأكلون حشائش الوسط الثقافي التي يعفُّ الماعز السَّائب الضَّال أكلها في الشَّوارع والطرقات الخلفية . مات هؤلاء أو اختفوا أو احترقت أكبادهم أو توقفوا عن ” كتابتهم ” البائسة ، وبقي الكبار كبارا 🙁 إذا كانت النفوسُ كبارًاتعبتْ في مُرادِها الأجسامُ ) المتنبيM

( ذُو العقلِ يشقَى فى النعيمِ بعقلِهِ

وأخُو الجهالةِ في الشَّقاوةِ ينعمُ ) المتنبي/

فأن تكُونَ محسُودًا ، أو موضعَ حسدٍ ، خيرٌ لك من أن تكون حاسدًا ، فالحاسد أكل الحَسَدُ قلبَه .والشَّاعر عبد الله بن المعتز ( 247 هـجرية / 861ميلادية – 296 هـجرية / 908 ميلادية ) يقول 🙁 اصبِرْ على حسدِ العدُوِ

فإنَّ صبرَك قاتلُـهْفالنارُ تأكلُ نفسَها

إنْ لم تجدْ ما تأكلُهْ ) .

* ahmad_shahawy@hotmail.com

‏مقالات ذات صلة

Back to top button