
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرفِ المرسلين، وبعد.
إلى أستاذي الدكتور محمد آيت لعميم.
فإني -بادئ ذي بدءٍ- أقدم بينَ أيديكم اعتذاراً عن كلماتي التي لنْ تبلغَ ما أرجو لها في وصفِ ما أحملُه لكمْ في قلبي، وأنى لها ذلكَ؟ وهيَ مقبلةٌ على رجلٍ جليل القدرِ في نفوسِنا جميعاً، حسبُنَا أن يذْكَرَ اسمُهُ فيأخذُنا من الطربِ ما يأخذُنَا حينَ نسمعُ بيتاً من الشِّعرِ مهيبَ اللفظِ جليلَ المَعنَى.فأنتم أسْتاذي الكريمِ واسطَةُ العِقدِ فيمنْ عرفَنا مِن رجالِ هذا المركَزِ، وصفوةُ الصفوَة فِيهم، غيرَ مبالغٍ فيما أقولُ، وغيرَ واصفٍ ما لا أجدُه في نفسِي. ولا أدري -في الحقيقةِ- من أيِّ خصالِكم الحميدةِ أبدأ، إن جئنَا إلى التواضُعِ فإن بابَ القولِ يوصَدُ في وجهِ القائل؛ حتى لا يدرِي ما يأتِي وما يدَعُ، وإن جئنا إلى بشاشةِ الوجهِ وعَفْويةِ الحديثِ، فلا أدلَّ على هذين من كونِ الطلبةِ حينَ يرونَك مقبلاً يلتفُّون حولَكَ، كالشُّهبِ بالبدرِ أو كالجنْدِ بالعَلَم، أو كالمريدين بالشيخ. وإن جئنَا إلى العِلمِ، فحسبُكَ أننا حينَ تبدأ حديثك فيه يسعى الواحدُ منا بكل ما أوتي أن لا يضيِّع مما تقولُ حرفاً واحداً، فلا أجدُ في وصفِكم إلا قولِي فيكم:
وقفتُ لكيما أمدحَ العلمَ ماثلاً
فعيَّتْ حروفي أن تطِيقَ لذَا وصْفَا
مخافـةَ قـولٍ ليسَ يبلُغ نعـتَه
وكيْف أرجي وصفَ مَن بالبَهَا حُفّا؟!
على أننـي لا بد قائل قولةٍ
أرومُ بها فيكـمْ إلـى خالقِي زُلفَى
تبارك ربُّ العلم خالقُكُمْ له
فحظُّكمُ منهُ على غيركُم أوفَى !
هذَا، وإن أجلَّ خصالِكمْ عندي وأجمَلَها، أنكمْ من عشاقِ الشِّعرِ والشعراءِ، أمراءِ البيانِ الذين جعلَ الله على ألسنتهم ما بقيَ من إرثِ النبوَّة. وقد جعلنِي اللهِ من محِبي هذه الطائفة، ومن محبِي هذا الضربِ من القول، لا أضعُ فوقَه إلا كلامَ اللهِ وكلامَ نبيه عليه الصلاة والسلام. فهذه المنقبَةُ التي وجدتُها فيكمْ هي التي انفتحَ لها بابُ القلبِ على مصراعِيه أولَ ما انفتَح، وصرتُ لا أذكُركم أستاذي إلا ذكرتُ الشعرَ، ولا أذكرُ الشعرَ إلا ذكرتُكم به. فكأنِي وقعتُ في هذا المركزِ على كنزٍ ثمينٍ، كنتُ أؤملُ أن أجدَ مثله في مرَّاكش؛ وفي هذا المعنى أقول فيكم:
تعِبنا على هذا الجَــمال.. فلـم نكُن
لنسـْلِـمه حـــتى تسيلَ نُـفـــوسُ!
أيُبتاعُ بالبَخْسِ النفيسُ وقد نَرى
بخيــساً يُغالى فيــه وهْو بخيسُ؟!
وما زلنا نذكرُ الحصةَ الأولى، التي كانتْ فاتحةَ الجمال في هذه المدينة، والتي كانَ قطبَ رحَاها بيتَا أبي تمَّام حبيبِ بن أوسٍ الطائي:
نقِّل فؤادكَ حيثُ شئتَ من الهوَى
ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ
كم منزلٍ في الأرضِ يألَفُه الفتى
وحنينُه أبداً لأولِ منزِلِ!
فرحتُ تسبُر أغوارَهما، وقد وضعتَ على مِشرحَة النقد قلب حبيبٍ الطائي، فَعرَّيتَ حنينَه الدفينَ إلى المنزِل الأولِ، منزلِ الملِك الضليل حاملِ لواءِ الشعراء، مهتدياً في ذلكَ بحماسةِ أبي تمام نفسِه، وبفيلسوفِ المعَرةِ في ذكْرى حبيب، فوجدنا بعدَ هذا التَّطواف معكمْ في حدائق الشعِر أن أبا تمامٍ يسلُك سبيلَيْن: .سبيلَ القديمِ حينَ يختارُ، وسبيلَ الجديدِ حينَ يقول.
وما زلتُم أستاذي قبلةً لمحبي الشعرِ وطَالبي أسرارِه، تفكُّون مغاليقَه، وتذللُون صِعابِه، وتهتدون فيه إلى كوامِن أسرارِه إذا وقفَ الغريبُ عنهُ على قشورِ معْناه:
شكَا عسرَ القريضِ إليَّ قومٌ
فقلتُ: لقدْ شَكوتُم مِن عظيمِ
فما هُو بالذِي يَدنُو جنَاهُ
وقدْ أعْيَا بهِ ذهنُ الفَهـيمِ
إذا ما الشعرُ ضاقَ بهُ بنُوهُ
ِِفإن طبيبَهُ أَيتُ العميمِ!
وحرصاً منكَ على الاهتمام بهذا الفنِ أستاذنا الكريم؛ قلتَ لنا يومَها: شيئانِ ينبغِي أن تحرصُوا عليهما إن أردتمْ أن تكونُوا ذوي شأن: حفظُ القرآن الكريم وحفظُ الشعر القديم.
وقدْ زادَ اهتمامَكم بالشعرِ جمالاً أنكم اخترتُم من أربـابِه شاعرينِ عظيمينِ هما وجْهُ الأمة العربية ورسولاهَا إلى العالمين في دينِ الأدب، أولهما: الشمسُ التي لا تغيب، أحمد بن الحسينِ أبو الطيب المتنبي، وثانيهما: الأعمى الذي كانَ وما زال يهدِي البُصراء : أحمدُ بنُ عبد الله بنِ سليمان التنوخي أبُو العلاء المعرّي.
فقد جعلتَهما أصفى خليلَيْك، وصرتَ تمشي بينهما، هذا عن يمينِك وذاك عن شمالِك، تصغي إليهما إصغاءَ الواعِي لما يُفضيانِ إليك به، على بعدِ ما بينَك وبينهما من الزمانِ ،المتطاول، فسامرتَ أبا الطيّب حينَ طالَ ليلُه بالعراق، وواسيتَه حينَ أفجعَه الخبرُ الذي طوى الجزيرة، وكنتَ الوحيدَ الذي فهم عنه حين ضاقِ بالعُجمَة في شِعْبِ بوَّان، ولم يجد غيرَك حينَ طرقَته الحمَّى ليلاً فتركت المطارفَ والحشايَا وباتت في عظامِه، وكنتَ أول المطَّلعين على وجه الذمِّ في بيتِ المدح حين كان في سجن كافور، وكنتَ رفيقَه وهو يخترقُ الفيافي هرباً منه، وأولَ السامعينَ منه حينَ أخذ يحدُو حداءً بمقصورةِ الإباء.
وختاماً أقول أستاذي: ليتَ الزمان طالَ بنا معكم، لنزيد من جليلِ علمِكم وحُسن أخلاقكم، فلا يعلم إلا اللهُ قدر حبَّنا لكم، واشتياقِنَا للجلوسِ بينَ أيديكم، فأرجو أن لا تنقطِع صلتنا بكم، ولا أن تنقطعَ صلتكم بنا، لأنك لم تكن لنا مجرد أستاذ، بل شيئاً فوق الوصف، وحسبنَا كما قلتُ سابقاً أن اسمكم حين يذكَر يأخذنا من الطرب ما يأخذنا، شأن المحبِّ حينَ يجري ذكرُ اسم محبوبِه.
*محمد فرتان ( الطالب الاستاذ بالمركز لمهن التربية والتكوين مراكش ، 21 يونيو 2025.)