
(كش بريس/التحرير)ـ في سياق تنامي المخاوف المرتبطة بجودة وسلامة المواد الغذائية بالمغرب، يكشف التقرير الصادر عن المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية (ONSSA) عن حصيلة دقيقة لعمله الرقابي على المطاحن الوطنية، باعتبارها إحدى الحلقات الحساسة في ضمان الأمن الغذائي وصحة المستهلك. فمنذ تأسيسه بموجب القانون رقم 25-08 سنة 2009، يتولى المكتب مسؤولية الإشراف على حماية الصحة العامة، الحيوانية والنباتية، ضمن مقاربة مؤسساتية تسعى إلى ترسيخ ثقافة السلامة الغذائية في مختلف مراحل الإنتاج والتوزيع.
رقابة صارمة وترخيص مشروط بالسلامة الصحية:
وفق التقرير، منح المكتب الوطني إلى حدود سنة 2025 ما مجموعه 191 ترخيصًا صحيًا للمطاحن، بعد التحقق من مطابقتها لمعايير النظافة والسلامة الصحية، سواء في ما يتعلق بظروف التخزين أو أساليب الطحن والعنونة. ولم يقتصر الأمر على منح التراخيص، بل امتد إلى زيارات تفتيشية منتظمة بلغت 212 زيارة خلال سنتي 2024 و2025، في إطار متابعة دقيقة تهدف إلى ضمان استمرارية الامتثال للمعايير القانونية والمواصفات التقنية.
تحاليل مخبرية ومراقبة دقيقة للدقيق:
ينفذ “أونسا” برنامجًا وطنيا سنويًا للمراقبة المخبرية، يشمل تحليل عينات من الدقيق الموجه للاستهلاك، من أجل الكشف عن الملوثات الخطرة مثل الأفلاتوكسين والأوكراتوكسين A والزيرالينون، إلى جانب التحقق من النسب المعيارية للعناصر المعدنية والرطوبة والبروتين والحديد. هذه المقاربة العلمية تشكل خط الدفاع الأول ضد أي اختلال يمكن أن يمس سلامة الدقيق المتداول في السوق المغربية.
المراقبة الميدانية وحجز الدقيق غير المطابق:
في المستوى الميداني، يشارك المكتب ضمن اللجان المحلية المختلطة في مراقبة الدقيق المعروض بنقاط البيع والأسواق، للتأكد من احترام شروط التخزين والتوزيع. وقد أسفرت عمليات المراقبة خلال سنتي 2024 و2025 عن سحب وإتلاف عشرات الأطنان من الدقيق غير المطابق للمعايير:
سنة 2024: أخذ 710 عينات، وحجز 38 طنًا، وإحالة 89 ملفًا على المصالح المختصة.
سنة 2025 (إلى نهاية شتنبر): أخذ 577 عينة، وحجز 33 طنًا، وإحالة 60 ملفًا.
كما تم خلال الفترة نفسها سحب 9 رخص صحية وتعليق 4 تخص مطاحن تبين عدم احترامها للمعايير الصحية، في خطوة تؤكد تشدد المكتب في تفعيل مقتضيات القانون دون تهاون.
بين الصرامة المؤسساتية وثقافة الوقاية:
يبرز هذا التقرير أن المكتب الوطني للسلامة الصحية يسعى إلى إرساء نموذج رقابي وقائي، قوامه الجمع بين الرقابة الميدانية والتحليل العلمي، بدل الاقتصار على ردود الفعل بعد وقوع الخطر. غير أن هذه الجهود، على أهميتها، تطرح تساؤلات حول مدى تأهيل البنية الصناعية للمطاحن الصغيرة والمتوسطة لتلبية معايير صارمة في بيئة تنافسية تعاني هشاشة في التمويل وضعف الوعي بالممارسات الجيدة للتصنيع.
إن الحفاظ على “أمن الخبز اليومي للمغاربة” لم يعد مسألة تقنية محضة، بل رهانًا اجتماعيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا يتطلب تنسيقًا متعدد الأطراف بين وزارات الفلاحة والصحة والداخلية والاقتصاد، لتفعيل مقاربة متكاملة تضع سلامة المواطن فوق كل اعتبار. فالأمن الغذائي لم يعد يُقاس بوفرة المنتوج، بل بجودته واستدامة ثقافة السلامة التي تحمي الإنسان قبل أي شيء.



