‏آخر المستجدات‏المرأة وحقوق الانسان

عبء الرعاية غير المدفوعة: حين تتحول المرأة إلى العمود الخفي للاقتصاد المنزلي

(كش بريس/التحرير)ـ يضع تقرير الميزانية القائمة على النتائج من منظور النوع الصادر عن وزارة الاقتصاد والمالية المرأة المغربية أمام مرآة واقعٍ مزدوج، عنوانه العريض: تفاقم الأعباء المنزلية وسط هشاشة أنماط التضامن الأسري. فمع تنامي الأسر النووية وتسارع شيخوخة الساكنة، تتعمّق الفجوة بين أدوار الجنسين داخل الأسرة، وتُعاد صياغة علاقات التضامن المنزلي بما يجعل من المرأة الطرف الأكثر تحمّلاً للعبء الاجتماعي والاقتصادي في آنٍ واحد.

هيمنة العمل غير المدفوع… اقتصاد الظل النسوي:

يؤكد التقرير أن النساء يساهمن بما يفوق 84% من القيمة المضافة المنزلية، في مقابل 16% فقط للرجال، ما يعكس اقتصادًا خفيًا يتغذى على عملٍ غير مدفوع الأجر، تُسخّر فيه النساء طاقاتٍ هائلة في الرعاية والتنظيف وتدبير الحياة اليومية، دون أن ينعكس ذلك على وضعهن الاقتصادي أو الاعتباري.

هذا التفاوت البنيوي يجعل من المنزل وحدة إنتاج اجتماعي غير مرئي، تتحول فيه المرأة إلى “محرّك خفي” يدير دورة حياة الأسرة، بينما يظلّ الناتج غير محتسب ضمن مؤشرات الثروة الوطنية. إنّه ما يمكن تسميته بـ “اقتصاد الرعاية المقموع”، الذي يسنده التضامن العائلي التقليدي، لكنه ينهار تدريجيا أمام تحولات البنية الأسرية الحديثة.

الأسر النووية وتآكل التكافل الاجتماعي:

التحليل السوسيولوجي يُبرز أن تفكك العائلة الممتدة، وتحوّلها إلى أسر نووية صغيرة، أعاد توزيع أدوار الرعاية بشكل غير متوازن. فغياب الجدة أو العمّة أو الأقارب القادرين على المساعدة، جعل المرأة الأمّ والزوجة في آنٍ واحد تعيش تحت ضغط مزدوج: رعاية الأطفال والمسنين معًا، في غياب الدعم العائلي والمؤسساتي.

وفي ظل هذا التحوّل البنيوي، تكشف الأرقام أن 63% من النساء غير النشيطات يبررن انسحابهن من سوق الشغل بعبء الأشغال المنزلية ورعاية الأطفال. وتؤكد المندوبية السامية للتخطيط (2024) هذه المفارقة، مشيرةً إلى أن 74% من النساء غير النشيطات ربات بيوت، نصفهن تقريبًا يرين أن غياب مؤسسات الرعاية يشكل العائق الأول أمام تحقيق الاستقلال الاقتصادي.

رعاية المسنين… عبء آخر على كاهل المرأة:

في موازاة ذلك، برزت رعاية المسنين كعبء ثانٍ لا يقل ثقلاً عن الأول. فسرعة الشيخوخة الديمغرافية في المغرب جعلت من النساء ـ خصوصًا الزوجات والبنات ـ الركيزة الأساسية للرعاية طويلة الأمد، في غياب بنيات داعمة أو خدمات اجتماعية كافية. وهنا يتبدّى التحدي الأخلاقي والاجتماعي: كيف يمكن لامرأة مثقلة بالأعباء المنزلية أن توازن بين التكوين، والعمل، والحياة الخاصة، والرعاية النفسية والعاطفية للمسنين؟

إنها مفارقة الأنوثة المُنهَكة التي تتحمّل عبء التماسك الأسري، دون أن تنال حظّها من الاستقلال المهني والاقتصادي.

التمكين الاقتصادي للمرأة بين خطاب الدولة وثقل الواقع:

رغم الخطابات الرسمية حول التمكين والمساواة، فإن المؤشرات ما تزال تُظهر انكماشًا في مشاركة النساء في سوق الشغل المهيكل: من 30,4% سنة 1999 إلى 19,1% سنة 2024. هذه النسبة المقلقة تطرح سؤالًا جوهريًا حول استدامة نموذج الرعاية القائم على التضامن الأسري، الذي ينهار تدريجيًا أمام تحولات اجتماعية وديمغرافية عميقة.

فالمرأة التي يُطلب منها أن تكون عاملة ومنتجة ومربية ومُسنة في المستقبل، تواجه نظامًا غير مرنٍ، يُحيلها إلى دائرة التضحيات المتكرّرة، دون مقابل مادي أو رمزي يعترف بدورها الحيوي في إعادة إنتاج الحياة الاجتماعية.

الاقتصاد الفضي… أفقٌ جديد لاقتصاد الرعاية:

يطرح التقرير مفهوم “الاقتصاد الفضي” كأفق استراتيجي جديد. فمع تزايد عدد كبار السنّ وارتفاع قدرتهم الشرائية والمعرفية، يبرز هذا الاقتصاد كقطاع واعد يمكن أن يخلق فرص شغل لآلاف النساء في مجالات الرعاية المنزلية، والخدمات الصحية، والتكنولوجيات المرتبطة بالعمر الذهبي.

بل إنه يشكل رافعة حقيقية لـ ريادة الأعمال النسائية، إذ يمكن للنساء تحويل خبراتهن في الرعاية إلى مشاريع مجتمعية مبتكرة، تربط بين التمكين الاقتصادي والوظيفة الإنسانية.

نحو إعادة تعريف “القيمة” في الاقتصاد الاجتماعي:

التحليل التركيبي لهذا التقرير يقود إلى تساؤل فلسفي عميق: هل يمكن للاقتصاد أن يظل يُقاس فقط بالمداخيل النقدية والإنتاج المادي، بينما تتكئ المجتمعات على عملٍ نسوي غير مرئي يؤمن استمرارها؟

إنّ إدماج مفهوم القيمة الاجتماعية للرعاية في الحسابات الوطنية ليس ترفًا إحصائيًا، بل شرطًا لبناء نموذج تنموي عادلٍ وشامل، يعترف بأن العمل المنزلي هو اقتصاد بديل، وأنّ تمكين المرأة يبدأ من إعادة الاعتبار لوقتها وجهدها غير المؤدى عنه.

يمكن القول، إنّ التحولات السوسيوديمغرافية التي يعيشها المغرب اليوم تعيد تشكيل معنى العمل والأسرة والتضامن. وإذا لم تُترجم السياسات العمومية إلى إصلاحات هيكلية في نظام الرعاية، فإن المرأة ستظل الفاعل الصامت في اقتصاد غير منصف، يُنتج القيم دون أن يعترف بصانعاتها.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button