
ـ يكتبها مدير النشر: د مصطفى غَلــــمَــان ـ
كمواطن وإعلامي يتابع عن كثب أشغال المجلس الحكومي، أجد نفسي أمام مشهد متكرر. بلاغات رسمية تتوهج بالكلمات والمشاريع، لكنها تختفي فجأة عن واقع المواطن اليومي، عن معيشته وتحدياته اليومية، عن الغلاء المتصاعد وتوسّع الطبقية، وعن الهوة المتسعة بين السياسة وممارستها.
اليوم، أمام البلاغ الجديد للمجلس الحكومي المنعقد بالرباط، شعرت بأن الوقت قد حان لكشف النقاب عن هذه المعضلة الكبرى، وطرح الأسئلة التي عادة ما تُترك معلقة. من بينها، كيف تتماهى المراسيم مع حياة الناس؟ وأين تكمن مسؤولية السلطة في تجاوز الفجوة بين النص والواقع؟.
هذه محاولة صريحة لفتح نافذة على الحقيقة، لنسبر معًا أعماق فوارق الحرقة، ولنرى الدولة كما هي، بين القانون والممارسة، بين الوعود والنتائج.
يطرح العنوان سؤالاً وجوديًا وجوهريًا حول جدوى المراسيم الحكومية في تحقيق الإصلاح الاجتماعي والسياسي. فالدولة ليست مجرد مجموعة قوانين ومراسيم صادرة عن السلطة، بل هي فضاء لتفاعل السلطة مع المجتمع، حيث تقاس شرعيتها وقدرتها على التغيير بما تتحقق من النتائج على أرض الواقع.
إن المواطن العادي، عند مواجهته لمراسيم تهدف إلى رفع التعويضات العائلية، تنظيم السوق الغذائي، أو تأطير الإنتاج الذاتي للطاقة، يتساءل عن حدود هذه المراسيم وأولوياتها. هل هي أدوات رمزية للتواصل الإعلامي فقط، أم أنها تحمل إمكانية حقيقية لتغيير معيشته اليومية؟ وهل يمكن لهذه النصوص أن تواجه المنظومة الفاسدة أو الطبقات المستفيدة من الوضع القائم، التي غالبًا ما تشكل حاجزًا أمام أي تسرب إصلاحي؟
تعلّمنا الفلسفة السياسية، أن الفاعلية الحقيقية للقانون تتوقف على آليات التطبيق والرقابة المستمرة. فالقانون وحده، مهما كان متقدّمًا أو عادلاً، يظل ناقصًا إذا لم يرافقه إرادة حقيقية للإنفاذ، وشفافية في التنفيذ، وبيئة مجتمعية واعية بالحقوق والواجبات. فإنه لا يكمن التحدي الأكبر للمراسيم الأخيرة في إصدارها، بل في ضمان أن تصل إلى المواطن الفعلي، وتقطع الطريق على الفساد والمحسوبية، وتعيد بناء الثقة بين الحكومة والشعب.
كما أن السؤال الفلسفي العميق هنا هو موقع السلطة الحاكمة بين النية والممارسة. فهي تصنع النصوص، لكنها تواجه شبكة معقدة من المصالح والممارسات الاجتماعية والسياسية التي قد تمنع ترجمتها إلى واقع ملموس. إذن فثمة تناقض هيكلي محتمل بين النص الذي يعلن عن إصلاح أو تعزيز العدالة الاجتماعية، وبين البيئة الاجتماعية والسياسية التي يستقبلها فيها المواطن.
هذه المراسيم تمثل اختبارًا لثقافة الدولة في التعامل مع المجتمع المدني والشفافية والمساءلة. فنجاحها أو فشلها سيكون مؤشرًا على قدرة المؤسسات على تحقيق التوازن بين القانون والواقع، بين السلطة والثقة الشعبية، وبين النوايا والإمكانات. وفي هذا السياق، يظل المواطن العادي، بحسه النقدي ويقظته اليومية، الحكم الأبرز على مصداقية الدولة وإرادة الإصلاح.
في نهاية المطاف، تظل المراسيم اختبارًا صريحًا لإرادة الدولة في تحقيق العدالة والفعالية، وقياسًا حيًا لقدرة المؤسسات على جسر الهوة بين النص القانوني وواقع المواطن اليومي. فكل إصلاح يكتفي بالكلمات على الورق دون أن يجد سبيله إلى التطبيق الفعلي، يظل ناقصًا، وعاجزًا عن كسب ثقة الشعب. وهنا تتضح الحقيقة الفلسفية البسيطة والمعقدة في آن واحد، أن الثقة الشعبية ليست حقًا مكتسبًا تلقائيًا، بل ثمرة أفعال ملموسة وإجراءات شفافة تلمس حياة المواطن مباشرة. ومهما بلغت جودة المراسيم أو علو مقاصدها، فإنها لن ترتقي إلا إذا صمدت أمام الفساد، والمصالح الضيقة، والتأخر في التنفيذ، لتصبح ليست مجرد نصوص، بل أدوات حقيقية لتغيير اجتماعي وسياسي متجذر في الوعي الجمعي للمجتمع.