‏ ‏برامجنا‏آخر المستجدات‏صوت المواطنلحظة تفكير

على مسؤوليتي: ميزانية الصحة والتعليم.. هل نحن أمام نهضة مالية أم قفزة في الفراغ؟

ـ يكتبها مدير النشر: مصـطـفــى غَـــلمـان

في لحظة تتقاطع فيها الخطابات الرسمية مع نبض الشارع، تعود الميزانية الإضافية التي أعلن عنها عقب المجلس الوزاري الأخير، لتفتح سؤالًا وجوديًا أعمق من الحسابات والأرقام: هل نحن إزاء تحول نوعي في منطق التدبير العمومي نحو عدالة اجتماعية فعلية؟، أم أمام موسم جديد من البلاغة المالية التي تُعلن الأمل لتؤجل الفعل؟

ما من شك أن إعلان تخصيص غلاف مالي ضخم يقارب 140 مليار درهم لقطاعي الصحة والتعليم يشكل في ظاهره علامة على وعي الدولة بضرورة إعادة بناء الثقة مع الأجيال الصاعدة، ولا سيما “جيل Z”، الذي بدأ يطالب، بلغة جديدة، بإعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة. لكنّ جوهر المسألة لا يُقاس بحجم الغلاف المالي، بل بما إذا كان هذا الغلاف سيتحول من ورقٍ إلى أثر، ومن وعدٍ إلى فعل.

ففي قطاع الصحة، حيث تُرصد مليارات الدراهم للأجور والتجهيزات والاستثمارات، ينهض السؤال الجوهري: هل يمكن للنظام الصحي أن ينهض فقط بزيادة الإنفاق، أم أن النهضة الحقيقية تمر عبر إعادة تشكيل الوعي الأخلاقي للعاملين فيه؟، إذ لا تكفي البنيات التحتية والمعدات المتطورة إن ظلت الروح المؤسسية أسيرة اللامبالاة والبيروقراطية. فالصحة، في بعدها الأنطولوجي، ليست خدمة اجتماعية فحسب، بل تعبير عن فلسفة الاعتناء بالإنسان بوصفه قيمة مطلقة، لا مجرد رقم في نظام إداري أو حالة في دفتر حساب.

وفي المقابل، يبدو قطاع التعليم أشبه بمختبر للمعنى ذاته. فأن تُرصد أكثر من 50 مليار درهم للأجور و13 مليارًا للاستثمار لا يكفي إن ظلت المدرسة فضاءً لتلقين الامتثال بدل إيقاظ الفكر. هنا لا يتعلق هاجسنا بالتمويل، بل بـ “ماهية التعليم” ذاته. هل نريد مؤسسة تصنع الوعي أم نظامًا يكرر الطاعة؟، وهل نهيئ الإنسان ليتفكر أم لنؤهله ليُدار؟

فالتعليم الذي لا يحرر، يُكرّس العبودية الرمزية ولو بأحدث الوسائل التربوية. إن الدولة حين ترصد ميزانية بهذا الحجم، إنما تُعلن عن تصورٍ أخلاقي للسياسة. فإما أن يتحول المال العام إلى أداة لبناء الإنسان في كرامته وقدرته على المشاركة الواعية، أو يظل مجرد لغة تزيينية تُستعمل لتمديد الأمل في أفقٍ لا يتغير.

إن المال هنا يصبح اختبارًا للضمير أكثر مما هو وسيلة للإنفاق. ومن دون رقابة حقيقية تربط الفعل الإداري بالمسؤولية الأخلاقية، ستظل الأرقام تُضيء سطح الخطاب وتخفي العتمة التي في العمق.

إن تحذيرنا الذي يفرض نفسه اليوم ليس: كم سننفق؟، بل: كيف سننفق؟، ولأي إنسان نريد أن نُنفق؟ فكل درهم يُصرف خارج مشروع الكرامة والعدالة هو خسارة أخلاقية قبل أن يكون خسارة مالية. ربما كانت هذه الميزانية، إن أُحسن تدبيرها بداية تحوّل في فلسفة الحكم نفسها، نحو دولة تضع الإنسان قبل المؤشر، والكرامة قبل الحساب. لكن إن ظلت بلا مراقبة، فستتحول إلى طقس مالي جديد في مسرح البيروقراطية، تُصفق له النشرات وتنساه الوقائع.

إن الرهان الأكبر ليس في الأرقام، بل في اليقظة الأخلاقية للدولة والمجتمع معًا. فحين تصبح الميزانية فعلًا للضمير لا وثيقة للعرض، فقط آنذاك يمكن القول إن المغرب دخل زمن الدولة العاقلة. الدولة التي تُنفق لتبني الإنسان، لا لتُخدره.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button