
ـ ميزانية 2026 تطيح بالحكومة: فرنسا تواجه اختباراً حقيقياً للاستقرار السياسي ـ
(كش بريس/ حسن صداق من باريس)ـ تعيش فرنسا على وقع أزمة سياسية متفاقمة مع اقتراب سقوط حكومة فرنسوا بايرو شبه المؤكد، ما يضع الرئيس إيمانويل ماكرون أمام معضلة جديدة لاختيار خامس رئيس وزراء منذ إعادة انتخابه سنة 2022.
هذا الاضطراب السياسي غير المسبوق في ظل الجمهورية الخامسة، التي تأسست عام 1958، تفاقم منذ قرار ماكرون حلّ الجمعية الوطنية في يونيو 2024 بعد صعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية. وأسفرت الانتخابات التشريعية المبكرة عن مشهد برلماني منقسم إلى ثلاث كتل كبرى (اليسار، الوسط، اليمين المتطرف) من دون أغلبية واضحة، الأمر الذي جعل أي تحالف حكومي هشًّا بطبيعته.
بايرو ربط مصير حكومته بمشروع ميزانية 2026، التي تتضمن إجراءات تقشفية مثيرة للجدل أبرزها خفض 44 مليار دولار من النفقات وإلغاء يومي عطلة رسمية، سعياً للحد من دين عام بلغ 114% من الناتج المحلي. لكن إعلان اليسار واليمين المتطرف التصويت ضد المشروع جعل سقوط الحكومة أمراً حتمياً، فاتحاً الباب أمام مرحلة جديدة من عدم الاستقرار.
في ظل هذا الوضع، يطالب “التجمع الوطني” (اليمين المتطرف) بحلّ جديد للجمعية الوطنية، مستفيداً من تقدمه في استطلاعات الرأي. وفي المقابل، يرفض ماكرون اللجوء إلى هذا الخيار لكنه لا يستبعده نهائياً. أما “فرنسا الأبية” (اليسار الراديكالي) فيطالب باستقالة ماكرون نفسه، فيما يضغط جزء مهم من الرأي العام (64%) باتجاه انتخابات رئاسية مبكرة، غير أن الرئيس متمسك بإكمال ولايته حتى 2027.
الحزب الاشتراكي حاول طرح بديل عبر ميزانية أكثر اعتدالاً تقوم على ضريبة على الثروات وتعليق إصلاح التقاعد، لكن هذا السيناريو قد ينسف الائتلاف الهش مع أحزاب الوسط واليمين المعتدل، بل ويؤجج خلافه مع حلفائه اليساريين السابقين.
تتزامن هذه الأزمة السياسية مع أزمة ثقة أعمق؛ إذ يرى 90% من الفرنسيين أن الطبقة السياسية فشلت في الاستجابة لمشاكل البلاد. وتلوح في الأفق موجة احتجاجات وإضرابات دعت إليها النقابات وحركات اجتماعية مثل “السترات الصفراء”، قد تزيد من إضعاف موقع الرئيس وتمنح خصومه السياسيين فرصة للمزايدة.
ويقول المراقبون إن الأزمة البنيوية للنظام السياسي بفرنسا، ليس مجرد خلاف حول الميزانية، بل انعكاس لأزمة مؤسساتية في ظل برلمان مشرذم وصعوبة تكوين أغلبيات مستقرة. النموذج الفرنسي القائم على المركزية الرئاسية يبدو اليوم في مأزق.
كما أن ضعف موقع ماكرون، يكرس هذه الأزمة، فرغم تمسكه بإكمال ولايته، إلا أن موقعه يضعف مع كل استقالة حكومية جديدة. التنقل المستمر بين رؤساء الوزراء يفقد الرئاسة هيبتها ويعزز صورة “العجز عن الحكم”.
بالإضافة أيضا إلى صعود اليمين المتطرف، إذ التجمع الوطني بقيادة مارين لوبان يواصل استثمار فشل الطبقة السياسية، معززاً صورته كبديل “جاهز” للحكم. أي انتخابات جديدة قد تمنحه تقدماً إضافياً.
وفي هذا الإطار لابد من الإشارة إلى انقسام اليسار الفرنسي، رغم محاولات الحزب الاشتراكي لتقديم بدائل معتدلة تصطدم برفض “فرنسا الأبية” الراديكالي، ما يكرّس صورة يسار مفكك غير قادر على فرض بديل مقنع.
أما العامل الاجتماعي، فالأزمة لا تقتصر على الحسابات البرلمانية؛ فحركات الشارع، من النقابات إلى “السترات الصفراء”، تهدد بتحويل الأزمة السياسية إلى أزمة اجتماعية عميقة قد تعيد مشاهد 2018 أو حتى 1995.
كل السيناريوهات المطروحة (انتخابات مبكرة، تعديل حكومي، استمرار ماكرون في المناورة) تعني استمرار حالة عدم الاستقرار، وهو ما يضر بصورة فرنسا في الاتحاد الأوروبي ويضعف موقعها كقوة قيادية في القارة.