‏آخر المستجداتلحظة تفكير

فريدة بوفتاس: الإغتراب خطيئة أصيلة ثانية

إن كان النص الديني المسيحي المقدس قد حدثنا عن خطيئة أصلية ، ارتكبها آدم حين رغب في أكل تفاحة الشجرة المحرمة ، وكان أن فعل مما أدى به إلا أن يعاقب بسقوطه الأبدي من ملكوت عوالم سماوية إلى أخرى” مدنسة” ، ولذلك ورث عنه ابناؤه من البشر هذا الإبتعاد عن عالم متعال، وأيضا ورثوا عنه سقوطه الأبدي.

لتجدهم/ن حسب معاينة التاريخ البشري، يقترفون خطيئة ثانية ، حين نسوا أنهم/ن ولدوا أحرارا من كل شيء ، إلا من هذه الحرية الطبيعية المعطاة لهم/ن سلفا ، فكان اغترابهم/ن هو الآخر حتميا وأبديا . وكان عقابهم/ن ان يظلوا حاملين عبر مسيراتهم/ن الوجودية ومصائرهم /ن، الشعور المسكون بالغبن بأنهم غادروا وبدون أمل الرجعة،الى عوالم الحرية الفسيحة الأرجاء والأفق.

ابتدأ اغترابهم /ن عن حريتهم /ن حين خرج الإنسان من عالم الطبيعة إلى عالم الثقافة ، ساعيا إلى الإكتمال ، وفي احتياج وأيضا رغبة الى إقبار لعنة العنف التي جمعته وصاحبته في إطار علاقته بالآخرين، لكنه لم يحسن دائما هذا الخروج، حين فشل في إبرام تعاقد إجتماعي بشكل يتيح له إمكانية أن يظل ذاك الكائن الحر والمتحرر من الضروريات التي أتت على حريته تلك، شيئا فشيئا.

فهو لم يستطيع ان يجعل القوانين التي وضعها، بعد ان تواضع عليها واستكان لها ،حتى وإن بدا له أن إجماعه عليها لا يلائم الطبيعة البشرية، وفشل في أن تكون دائما حكما عادلا بين أفراده ، ولا طوعها لتكون منصفة له حين طاله الظلم والقهر وكل ما عبث بوجوده الحر الكريم. كان بذلك كمن عاد بخفي حنين من رحلته السياسية التاريخية الضاربة في القدم . هو من كان كائنا ، يعيش مع غيره تجربةمساواة في الغريزة، التي ألجمها بالقانون والأعراف ، وطوقها بالقيم الأخلاقية …

استشعر في البدء انتصاره المبهر على حيوانيته وجموحه اللامحدود إلا بحدود قدرته، لكنه ما فتئ أن تذكر او استوعب أنه أسكت فيه ولديه حرية الفعل في اتجاه وجوده الحقيقي والطبيعي، وهو يقدم ولاءاته المتتالية لفكر وتمثلات القبيلة ،العشيرة، وكل الأصنام التي صنعها طامعا في أن تكون مصدر مكاسبه الثمينة ، فعادت إليه تطوقه وتحاصره داخل مؤسسات عهد إليها بمجامع إحتياجاته ورغباته، هي من عاهدته على صونها،لكنها عادت لتخيب ظنونه وانتصاراته وتكسر خاطره ،حين أضاعت في دروب مسالكها وبتدرج حقوقه وعلى رأسها حريته.

كانت الأسرة وهي النواة والبدء لبناء إنسان مثالي مستشعر لإنسانيته هي أول ما أجبره على الإنصهار في ما تم التوافق والإجماع حوله، متخليا عن ما قد يفشل بناء هذا الصرح الكبير: الإنسان.

لكن، هذا المشروع الواعد لم يكتب له أن يشق طريقه نحو غايته النبيلة ،لتتحول هذه المؤسسة في أغلب الأحيان إلى مشتل لإنبات الإحباط النفسي والاجتماعي والإخفاق القيمي…حين تنعدم الشروط الموضوعية والذاتية لتحقق ذلك.

تم تأتي المدرسة التي عليها أن تخرج روادها من ظلمات الجهل ، إلى عوالم التنوير ، وتحولهم/ن إلى ذوات فاعلة ومتفاعلة بشكل إيجابي مع من حولها، في أفق تطوير الوجود البشري على كل المستويات. لكن الفشل والخيبة هما ماتصدر خصوصا في الآونة الأخيرة،نتائج هذه المؤسسة الركيزة في صنع الانسان /العالم .

مؤسسة لم تأنس عند اطفالها عند وطلاب جامعاتها في ما بعد ،هذا النزوع نحو الحرية، فكبلته بقواعدها المبالغ فيها أحيانا ، وبنمطية مناهجها، وغياب تخطيط بيداغوجي فعال يأخد بعين اعتبار الإختلاف الموجود بين الذوات ، على مستوى القدرات الذهنية ،الأوساط الإجتماعية، والتكوين النفسي …وكل ما يمكنه ان يصنع فوارقابينهم (ن)حتى يتم احتواؤه بشكل تربوي هادف ومسؤول. لكنها وهي تفشل في ذلك معلنة إفلاسها، تكون بذلك قد جعلت طالب العلم فيها يغترب بين انداده ،لتلفظه خارج أسوارها غير المحكمة، والمشرعة على ما سموه بالهدر المدرسي.

وتوالت ابتكاراته للمؤسسات( المصنع لتلبية حاجاته الضرورية وتطويرها من اجل الزيادة في السيطرة على الطبيعة ومنتجاتها ،دار عبادة…التي من شأنها أن تضبط حيوانيته وتؤطرها حتى يتم الإجتماع البشري،ويحقق سمو الإنسان عن غيره من الكائنات غير العاقلة، مادام متميزا عنها بملكة العقل، والقدرة على التفكير، وحرية الإرادة .

لكن الذي تبين عبر هذا المخاض المتشابك بين ما هو تاريخي، سياسي ،اجتماعي،مؤسساتي أن الإنسان لم يكن كثيرا مبتعدا عن تلك الكائنات المفتقرة للتفكير، ولم يقطع مع عدوانيته وحاجته إلى الدخول على الدوام في صراع مع الغير للحفاظ على بقائه ، وكم كان اشد وأعنف من كل الكائنات التي مرت من هنا ،على هذا الكوكب المفتقرة باستمرار للأمان والطمأنينة! كوكب استوطنه الإنسان مضيعا براءته ،حريته،لتتحدد له ماهية جديدة بوصفه كائنا مغتربا بعد سقطته المدوية هاته .

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button