
(كش بريس/التحرير)ـ في دورةٍ طبعتها المنافسة الفنية المحتدمة وتباين الرؤى بين نزعة الإبداع الخالص وإغراء السوق، برز اسم المخرج سعيد حميش بوصفه مفاجأة المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، أو بالأحرى تتويجًا متوقعًا لمغامرة فنية ناضجة. فقد حصد فيلمه “البحر البعيد” أربع جوائز كبرى، من بينها الجائزة الكبرى للمهرجان وجائزة الإخراج وجائزتا الأداءين الرجالي والنسائي، في مشهدٍ أشبه بـ”اكتساح جمالي” أعاد التوازن إلى النقاش حول موقع السينما المغربية بين الجماليات والرسالة.
بين الطموح الفني والرهان الوجودي
لم يكن “البحر البعيد” مجرّد معالجة سينمائية لقضية الهجرة غير النظامية؛ بل كان رحلة تأملية في معنى الاغتراب الإنساني، وفي المسافة الفاصلة بين الوطن كذاكرة والمنفى كاختبار للكينونة. اختار حميش الابتعاد عن الميلودراما أو الخطاب الدعائي المباشر، ليغوص في تفاصيل التجربة الفردية للمهاجر المغربي في مرسيليا خلال تسعينيات القرن الماضي، حيث تتقاطع الأسئلة حول الهوية والانتماء مع وجع العيش في مجتمع لا يعترف بسهولة بـ”الآخر”.
في هذا السياق، يمارس المخرج نوعًا من التصوير الفلسفي للمنفى، حيث تتحول الهجرة من حدث اجتماعي إلى حالة أنطولوجية يعيشها الإنسان المعاصر في بحثه الدائم عن معنى وجوده. فكل مشهدٍ في الفيلم يحمل توترًا داخليًا بين الحلم والخذلان، بين الرغبة في الانعتاق والحنين إلى الجذور.
اللغة البصرية: سردية الضوء والظل
يبدو أن حميش أدرك أن السرد البصري ليس مجرد وسيلة حكي، بل نظام دلالي يعيد ترتيب علاقة الإنسان بالعالم. فاختياره لأماكن التصوير، وتناوب الضوء والظل، واشتغاله على الكادر والمونتاج، كلها عناصر أسهمت في بناء إيقاعٍ بصري هادئ لكنه مشحون بطاقة درامية تحافظ على التوتر دون أن تفقد الشاعرية.
الصورة في “البحر البعيد” ليست وصفًا، بل تأملٌ بصريٌّ في الألم، وهو ما يجعل الفيلم يقترب من الحساسية الأوروبية الجديدة دون أن يتخلى عن جذوره المتوسطية.
الموسيقى كشخصية سردية
الرهان الجمالي الأبرز تمثل في توظيف موسيقى الراي، التي تعامل معها المخرج لا كخلفية موسيقية بل كشخصية درامية تعيش وتتطور مع الأبطال. حضور صوت الشاب حسني، منذ المشاهد الأولى، ليس صدفةً، بل هو استحضار لجيلٍ كامل عاش تمزق الحلم في تسعينيات المتوسط.
وحين يُعلن عبر التلفاز عن اغتيال الشاب حسني، يبلغ الفيلم ذروة تراجيدية، إذ تتحول الموسيقى إلى مرثية جماعية لجيلٍ فقد صوته ومرآته في آنٍ واحد. هنا يصبح الراي لغة سردٍ ثانية، تترجم بالصوت ما تعجز الصورة عن قوله — ذاكرةٌ تُغنّى لا تُروى.
السينما كفعل اعتراف إنساني
في تصريحاته، عبّر حميش عن رغبته في تجاوز التناول الواقعي للهجرة نحو تأملٍ أعمق في “الاغتراب كقدر إنساني”. وهذا ما يتجلى في بناء الفيلم كرحلة وعي، لا كحكايةٍ عن الفقر أو الحدود. “البحر البعيد” بهذا المعنى فيلم عن المسافة بين الذات والعالم، عن الإنسان الذي لا يجد مكانه لا في وطنه ولا في غربته.
يمثل “البحر البعيد” لحظة نضج في السينما المغربية المعاصرة، إذ استطاع الجمع بين الصدق الاجتماعي والتجريب الجمالي، بين الحس المحلي والنَفَس الكوني. إنه عمل يكرّس فكرة أن السينما ليست مجرد مرآة للواقع، بل وسيلة لإعادة تخيّله عبر الجمال، الذاكرة، والموسيقى.





