
(كتب م غ)ـ منذ زمن غامض في تقاويم الروح، لم تطأ قدماي عتبة معرض تشكيلي. ليس عزوفاً ولا كسلا بصريا، بل لأن معظم الدعوات التي كنت أتلقّاها بدت خاوية من تلك الشرارة التي توقظ العين من سباتها وتُقحم البصيرة في امتحانها الحقيقي، امتحان الشرط والرؤيا والمقام.

لكن هذه المرّة، حين وصلتني دعوة الصديق المثقف العضوي عبد اللطيف آيت بنعبد الله، شعرت بأن شيئاً ما يتهجّى اسمي من داخلها، شيئا يلمع في الحواف، يوحي بأن وراء الدعوة تجربة تستحق أن يُغامر المرء بفضوله لأجلها.
ومجرّد أن تصفّحت أولى اللوحات، أدركت أنني أمام تجربة لا تستأذن العين، بل تقتحمها. ومضات صادمة، كأن الطبيعة قررت أن ترسل نسختها البديلة إلى سطح القماش، نسخة أكثر صدقا، أكثر جموحا، أكثر قربا من سرّ الحياة حين تُفتح دفاترها الأولى. لم أتردّد بعدها في العبور إلى دار الشريفة، في عمق المدينة العتيقة بمراكش، حيث الفضاء نفسه يُشبه حكمة قديمة تتهيأ للبوح.

كانت الزيارة أشبه بملامسة حفيف الضوء وهو يعبر جسد الألوان. كل لوحة كانت تجرّ قطارا من الذاكرة، وتعيد ترتيب الطفولة في قوالب ضوء. هناك، في ذلك الركن الدافئ، كانت الفنانة أمل بنبريك تمشي جنباً إلى جنب مع آثار الشجر. كأنها تتتبع خطوات الريح القديمة حين كانت تدرّب الأغصان على الرقص. تزرع ألغاما لونية على القشّ والحقول الهائمة، وتُطلق من كل لمسة فرشاة صهيلَ وجع قديم يخالط استعادة طفولة لم تُشفَ تماماً.

أعمال أمل لا تُقرأ بتسلسل زمني، بل بنفَس ميتافيزيقي. خطوطها ليست مسارات، بل شقوق في الجدار الكوني تسمح للمتفرج بأن يطلّ على المجهول. هي أشرطة رؤيوية تُنظّم الفوضى، وتعيد ترتيب المعنى وفق هندسة الخلود، حيث يصبح اللون مقاما، والفراغ حقلَ احتمال، والروح نَسَغا يكتب ما يستعصي على اللغة.
وتستوقفني احتفالية أمل بـ “الماتوس”، ذلك البطل الإيتيقي الأمازيغي الذي يتحوّل لديها إلى استعارة للهوية حين تستيقظ بكامل قلقها وحيويتها. تستنطقه مثل ذاكرة حيّة، ممتلئة بشجاعات قديمة وبمياه جارية من الفخر. عبره تستنقذ الفنانة ما تبقّى من هويتها الداخلية، من جغرافيا تخبي أسرارها في تلال الرموز، ومن وجع العالم حين يضيق صدره بالعابرين.

أمل بنبريك تُعيد للفرح معناه الأصلي، ليس نقيضاً للألم، بل امتدادا جماليا له، محاولته لأن يبقى قابلاً للعيش. فرشاتها ترتعش لتشعل ما في الصدر من نار، وتُهدهد ما فيه من تردّد، وتبني بالصمت ما لا يستطيع الكلام أن يقوله.
خرجتُ من المعرض وفي داخلي شعور بأنني لم أشاهد لوحات، بل عبرتُ مسلكا رؤيويا جعل التشكيل شريكا للفلسفة في صياغة الوجود. لم أندم للحظة. كانت زيارة تعيد الاعتبار للّون كفكرة، وللفن كطريقة في الوجود، وللحياة كصفحة تُرسم قبل أن تُكتب.

فوتوغرافيا: الفنان أحمد بنسماعيل





