
(كش بريس/التحرير)ـ أثار العرض العلمي الذي قدمه الأكاديمي والنقاد محمد الداهي خلال افتتاح الموسم التاسع لدار الشعر بمراكش، نقاشًا ثقافيًا وفكريًا عميقًا، متجاوزًا الأبعاد التقليدية للشعر والسيرة، ليطرح التساؤل الأبرز: كيف يمكن للشعر والسيرة أن يكونا فضاءً لتجربة الذات واستكشاف العالم؟
استأنس الداهي في عرضه بالمفكر الفرنسي فيليب لوجون، الذي يمثل أحد أهم الأصوات الأدبية المعاصرة في حقل السيرة الذاتية، إذ جمع بين السيرة الشعرية والشعر السيري ليحوّل تجربته الأدبية إلى مساحة معرفية عميقة، تتقاطع فيها الذات بالزمان والمكان، وتتجاوز الحدود الجغرافية لتصبح رحلة داخلية وانعكاسًا معرفيًا. فالشعر عنده ليس مجرد أسلوب جمالي، بل أداة لتأمل الحياة اليومية وتوثيق الخبرة الإنسانية، والسيرة إطار تنظيمي يسمح بربط اللحظات الشخصية بالذاكرة الجماعية والتاريخ الاجتماعي.

الشعر والسيرة: البنية والهجين
يظهر عند لوجون كيف أن الشعر يمنح السيرة القدرة على التعبير عن الغياب، الحنين، والتوتر بين الحرية والانتماء، بينما تمنح السيرة الشعر أرضية واقعية للارتكاز عليها، فيصبح النص هجينًا بين التجربة العاطفية والملاحظة الواقعية. ومن منظور فلسفي، تُعد أعماله محاولة لفهم الإنسان في علاقته بالزمان والمكان، واستكشاف حدود الهوية الذاتية، حيث يتحقق الانصهار بين الوعي الفردي والتجربة الإنسانية، بين اللغة والفكر، بين الشعر والحياة الواقعية.
مقارنة بالتجارب العربية:
إذا انتقلنا إلى التجارب العربية، نجد صدى هذا التزاوج بين الشعر والسيرة في أعمال عدة أدباء وشعراء، مثل: أحمد مطر، الذي وظف الشعر السياسي والنقدي ليكون سيرة جماعية للشعور العربي بالاغتراب والحنين، حيث يتحول النص إلى مرآة للوعي الاجتماعي والسياسي. ومحمود درويش، الذي جمع بين السيرة الشعرية والذاكرة الوطنية، ليحوّل الشعر إلى فضاء للاحتكاك بين الذات والتاريخ والجغرافيا. أما نجيب محفوظ في أعماله السردية، فنجد السيرة جزءًا من بناء الشخصية الروائية، والشعر كعنصر جمالي يسمح بتكثيف اللحظات وتجسيد الانفعالات، وهو ما يشبه الانسجام بين التجربة الفردية والجماعية في نصوص لوجون.
بهذا، يمكن القول إن تجربة لوجون وأمثاله من الأدباء العرب تشترك في وظيفة الشعر والسيرة كأدوات لتأمل الذات وفهم العالم، مع الفارق في السياقات الثقافية والاجتماعية.

أثر الموجهين والأساتذة
لا يمكن فهم تطور لوجون دون الإشارة إلى تأثير المفكرين والنقاد الفرنسيين، مثل جورج غوسدورف وبول دي مان وميشيل بوجور، الذين أسسوا نظرياته حول السيرة الذاتية وأطروا مفهومي “العهد السيري” و”الذات السردية”. لقد شكّل هؤلاء الموجهون إطارًا معرفيًا ساعده على توظيف الشعر والسيرة كأداة للتأمل الاجتماعي والفردي، ولجعل النص فضاءً حيًا للتجربة الإنسانية.
الشعر والسيرة كنمط حياة
تتجاوز تجربة لوجون حدود الأدب إلى أسلوب حياة متكامل؛ فالشعر لا يكتفي بالكتابة، والسيرة لا تقتصر على التوثيق، بل تصبح وسيلة للوعي النقدي والتحرر الداخلي. وهذا البعد يشبه ما نجده في تجارب شعراء عرب، حيث يصبح النص فضاءً للبحث عن المعنى والهوية، وممارسة للحرية الفردية والجماعية.
*يمكن القول إن العلاقة بين الشعر والسيرة عند فيليب لوجون، مقارنة بالتجارب العربية، تكشف عن قيمة الأدب كفضاء معرفي وتجريبي، يتيح للذات أن تتفاعل مع العالم والآخر، وأن تحول التجربة الإنسانية إلى معرفة حية وفعل نقدي مستمر. فالرحلة الأدبية عنده ليست مجرد مسار خارجي، بل رحلة داخلية للتفكر في الذات والآخر والعالم، بين اللغة والفكر، بين الشعر والحياة الواقعية، لتصبح بذلك تجربة رائدة يمكن أن تلهم المشاريع الأدبية العربية المعاصرة في دمج السيرة بالقصيدة والنقد بالذات.

(تصوير: عبد المجيد شحلان)



