
(كش بريس/وكالات)ـ بعيدا عن صافرات التحكيم ومجريات المباريات داخل المستطيل الأخضر، لا تختزل كأس أمم أفريقيا 2025 في المغرب في بعدها الرياضي فقط، بل تتجاوز ذلك لتغدو اختبارا وطنيا متعدد الأبعاد، تتقاطع فيه الرهانات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتقرأ على نطاق واسع باعتبارها بروفة عملية لاستحقاق أكبر يتمثل في تنظيم كأس العالم 2030.
فبعد غياب امتد لعقود، يعود الحدث القاري إلى المملكة في سياق مختلف كليا، عنوانه الاستثمار في الرياضة بوصفها رافعة لنفوذ ناعم وأداة استراتيجية لتثبيت المكانة الإقليمية والدولية.
منذ المناظرة الوطنية للرياضة بالصخيرات عام 2008، راهن المغرب على إدماج كرة القدم في مشروعه التنموي والدبلوماسي، وهو رهان تعزز تدريجيا عبر سلسلة من النجاحات الرياضية التي منحت هذا التوجه مصداقية متزايدة.
فقد عاد المنتخب المغربي إلى كأس العالم في 2018 بعد عقدين كاملين من الغياب، قبل أن يحقق إنجازا تاريخيا بوصوله إلى نصف نهائي مونديال قطر 2022، ثم إحراز الميدالية البرونزية في أولمبياد باريس 2024، إلى جانب تتويجات في الفئات السنية، كان أبرزها لقب عالمي لفئة أقل من 20 سنة شهر أكتوبر/ تشرين الاول الماضي.
هذه النتائج، وفق باحثين في سوسيولوجيا الرياضة، لم تكن معزولة عن رؤية مؤسساتية أوسع تهدف إلى إعادة تموقع المغرب باعتباره قوة رياضية صاعدة في أفريقيا.
في هذا السياق، يرى عالم الاجتماع المتخصص في الجغرافيا السياسية للرياضة جان-بابتيست جيجان في مقاله الأخير أن المغرب بات يشكل قاطرة كرة القدم الأفريقية، ليس فقط من حيث النتائج، بل من حيث قدرته على تنظيم الأحداث الكبرى وتسويقها سياسيا وثقافيا. ويضيف أن كأس أفريقيا 2025 تمثل لحظة مفصلية لترسيخ هذا الدور، خاصة أنها تأتي قبل أقل من خمسة أعوام على تنظيم مشترك لكأس العالم مع إسبانيا والبرتغال.
على مستوى البنية التحتية، تعكس الاستعدادات حجما استثماريا غير مسبوق في تاريخ البطولة القارية. فقد جرى تجهيز تسعة ملاعب حديثة موزعة على ست مدن، إلى جانب ملاعب تدريب خاصة بكل منتخب، وفنادق مخصصة للوفود، ضمن استثمارات فاقت مليار يورو لتأهيل الملاعب والمنشآت الرياضية، فضلا عن نحو 65 مليون دولار خصصت لأكاديمية محمد السادس لكرة القدم، التي أصبحت إحدى ركائز سياسة تكوين المواهب في المملكة. وتمتد هذه الاستثمارات إلى قطاعات النقل والسياحة والفندقة، حيث تتوقع السلطات تدفق نحو مليون زائر إضافي مقارنة بعام 2024، مع عائدات محتملة تناهز مليار يورو، ما يحول البطولة إلى محرك اقتصادي متعدد القطاعات.
غير أن الرهان لا يقتصر على الأرقام، بل يتجاوزها إلى اختبار قدرة الدولة على تدبير حدث مركب في سياق اجتماعي حساس. فكأس أفريقيا 2025 تقدم على أنها بروفة شاملة لمونديال 2030، تشمل تنظيم النقل والإيواء وتأمين الملاعب وإدارة الحشود، إلى جانب التنسيق بين وزارات الداخلية والخارجية والرياضة والسلطات المحلية. هذا التنسيق يكشف، في نظر مراقبين، عن صورة مغرب بسرعتين، مغرب يحقق اختراقات دولية متتالية، وآخر يواجه تحديات اجتماعية واقتصادية داخلية، خصوصا في صفوف الشباب.
وقد أعادت بعض التعبيرات الاحتجاجية الرقمية الأخيرة، من بينها حركة جيل “زد” (Gen Z)، طرح سؤال التوازن الاجتماعي في ظل هذا الزخم الرياضي، إذ عبر جزء من الشباب عن شعور بالتهميش وعدم الاستفادة من النجاحات الوطنية. وبذلك، تتحول البطولة إلى اختبار غير مباشر لقدرة الدولة على تحويل الإنجاز الرمزي إلى أثر اجتماعي ملموس، وتفادي اتساع الفجوة بين الخطاب الاحتفالي والواقع اليومي.
أمنيا، وضعت السلطات المغربية مخططا متعدد المستويات يشمل وحدات ولائية متخصصة، وأنظمة مراقبة بالكاميرات، واستخدام الطائرات المسيرة، إضافة إلى فرق كلاب بوليسية، مع الانضمام إلى برنامج “ستاديا” التابع للإنتربول لتبادل الخبرات في تأمين التظاهرات الكبرى. وتستند هذه المقاربة إلى تجربة تراكمت لدى الكوادر المغربية خلال مونديال قطر 2022، ما سمح بالاعتماد شبه الكامل على كفاءات وطنية، دون اللجوء إلى دعم أمني خارجي، في مؤشر على الجاهزية المؤسسية.
وفي موازاة ذلك، استثمر المغرب بقوة في البعد الجماهيري والثقافي للبطولة، عبر تجهيز مناطق واسعة للمشجعين في المدن المستضيفة، وتنظيم حفلي افتتاح واختتام بطابع فني محلي، إلى جانب إدارة دقيقة للتغطية الإعلامية الدولية. وينظر إلى هذه العناصر باعتبارها جزءا من صناعة الصورة، حيث لا يقتصر الرهان على التنظيم التقني، بل يمتد إلى التحكم في السردية الإعلامية وإبراز التنوع الثقافي والهوية المغربية أمام جمهور عالمي.
كل هذه المعطيات تجعل من كأس أمم أفريقيا 2025 أكثر من مجرد بطولة قارية. فهي منصة لاختبار جاهزية البنية التحتية، ومختبر للسياسات الأمنية الناعمة، وفرصة لقياس أثر الاستثمار الرياضي على الاقتصاد والمجتمع، وفي الوقت ذاته تمرين عملي على استحقاق مونديالي غير مسبوق في تاريخ المملكة.
وبينما يسعى المغرب إلى تكريس نفسه عاصمة أفريقية للرياضة والثقافة، يبقى التحدي الحقيقي في قدرته على تحقيق توازن دقيق بين الطموح الدولي والانتظار الداخلي، حتى تتحول كرة القدم من أداة إشعاع خارجي فقط، إلى رافعة اندماج اجتماعي تعزز الثقة والوحدة الوطنية، وتمنح للمشروع الرياضي بعده المستدام.
د ب أ





