
كتب: محمد النعمة بيروك
وأنا أقرأ كتاب “العرصة” وهو عبارة عن سيرة ذاتية لصاحبها الشاعر الكبير إسماعيل زويريق، قررتُ أن أكتب شيئا، بعد أن أخذني بروعة وعمق إلى سيرة مجتمع كامل خلال النصف الثاني من القرن الماضي وحتى اليوم، سيرة جيل مغربي بكل تفاعلاته مع محيطه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

تبدأ السيرة مع الطفل إسماعين (بالنون) الذي يعيش ظروفا عائلية صعبة، قبل أن تستحيل النون الموغلة في الوجع لاما شامخة، هي لام إسماعيل، التي تقول “لا” لكل الظروف الصعبة والمنغصات والعراقيل، والوجع الممزوج دائما وعلى مدى صفحات الكتاب بإصرار على التحدي والوجود، منذ أن رفض ضابط الحالة المدنية في مراكش كتابة لقب السارد “زريق” وفضل صيغة التصغير “زويريق”، وهي الواقعة التي اتضح في ما بعدها أن الإنسان هو الذي يعطي قيمة لاسمه، وليس العكس.
ورغم مسحة الانتقاد التي تزخر بها هذه السيرة وهي تلتقط مشاهد من الفساد الإداري، ونقص المرافق، والظلم الاجتماعي، وأطفال الشوارع، والمتسولين، وغير ذلك من المظاهر الاجتماعية البائسة، وحتى الفقيه المهلل في المسجد سيّء الصوت، إلا أنها لا تخلو من النّفَس الإيجابي، والطباع الجميلة في الناس بدءا بوالدة السارد التي تترك في القارئ أثرا طيبا وحنونا، وحتى والده الذي قسا عليه ذات طفولة لا يفوت السارد أن يتحدث عن نُزهاته، وكرمه وسخائه، وألغازه التي كان يؤنسهم بها، وعن أنفته ورفضه لصغائر الأمور، وإتقانه للغة الفرنسية.
يمرّ السارد أيضا بأخواله الذين كانوا ملاذا له في طفولته، خصوصا الجدة الطيبة التي وعدها حين كان صغيرا بجلابة، ووفى بوعده بعد خمس عشرة سنة، وكذلك الخال الشهم، مرورا أيضا بعشرات الشخصيات من زملاء العمل وأصدقاء الطفولة والشباب، ومن شعراء ونقاد وأدباء ومثقفين، وحتى بائعي الخضر، وأصحاب البقالة، وغيرهم من الشخصيات العابرة في السيرة.
ولأنها ليست سيرة تقليدية فإن الكتاب لا يقف عند عرض المعلومات مجردة، بل يضع هالة على ما يمسه منها كإنسان مؤطَّر بشكل معين بحسب الوضع والمرحلة، من الطفل المتمرد، إلى التلميذ النبيه، إلى الطالب الباحث، إلى المعلم، إلى المفتش، إلى الشاعر، إلى الرسام، إلى الناقد… إلخ.
وأنت تعيش هذه السيرة سترى أيضا كل موطئ قدم للسارد، بدءا بالجديدة وغيرها من المدن التي حملته إليها الظروف، خصوصا مراكش التي ستتمثل لك بأزقتها الضيقة، وشوارعها الكبيرة، وأسواقها المختلفة، وستتجول في جامع لفنا، وسوق الدلالة، وسترى شكل المنازل والعمران والأحياء، وسترى الأطفال وهم يلعبون في الأزقة، والمهنيين والتجار في الأسواق، والباعة المتجولين، وحتى السقاء، والمرأة البسيطة التي تحمل قفة على رأسها، بل سترى صعاليك الحي، من أمثال الصلكوط “بارضا” الذي تشعر أنه أحد صعاليك حيك، ولا يفوت السارد بين هذا وذاك أن يورد بعض الطرافة التي تطبع ابتسامة على شفتيك، طرافة من صميم خفة الدم المراكشية المعهودة.
وبالإضافة إلى الجانب الاجتماعي الطاغي بحكم ظروف السارد، وكذلك الجانب الاقتصادي البادي في حال هذا المجتمع قُبيل وبعد الاستقلال، فإن التفاعل مع الجانب السياسي يبرز في محطات كثيرة، خصوصا في التعامل مع المستعمر الفرنسي، وما صاحب ذلك من أجواء شعبية وتفاعلها مع نفي الملك، ثم مع عودته مظفرا، وما تلا ذلك، كانقلاب الصخيرات الفاشل، وغير ذلك من وقائع وأحداث.
غير اهتمام السارد بصفته شاعرا وفنانا تشكيليا وناقدا، كان على الجانب الثقافي أكثر، وتجلى ذلك من خلال وصفه للمشهد الأدبي والفني، فتحدث عن المهرجانات، والأمسيات الشعرية، والمعارض، والأنظمة التربوية، والمسرح، وغير ذلك، كما مررتِ السيرة جردا عن الفاعلين والمؤثرين والشعراء والأدباء والمثقفين عموما، مع نماذج كثيرة من الإصدارات، وأهم المكتبات في المدينة، كمكتبة “ابن يوسف” وحتى المقاهي الثقافية، والمطابع، مع بعض الإكراهات المتعلقة بالطباعة التي أخرت الإنتاجات الورقية للشاعر
وفي الجانب الوظيفي سينقلك السارد إلى مجال عمله وهو التعليم، الذي تطلع على أجوائه قبل ذلك مع ولوج الدراسة المتأخر نسبيا، لكن أيضا المحفوف بالتفوق من أول فصل، فتخاله يتحدث عنك حين يتحدث عن التلاميذ وطبيعة المعلمين وأشكالهم وتصرفاتهم، وستشعر مثلا أن “سي السباعي” درسك في يوم من الأيام، بل إنك ستشعر بهواجس وآلام الفتى وكأنك هو، وفي مرحلة لاحقة من التعليم التكويني ستتفاجأ بأسماء كبيرة من قبيل محمد عابد الجابري، ومبارك ربيع، وعائشة بنت الشاطئ، وغيرهم كثير.

ـ الكاتبان زويريق وبيروك ـ
سيحدثك السارد أيضا عن مكتبته الخاصة التي بدأت بمنجد الطلاب وانتهت بآلاف الكتب والمجلات والمخطوطات، وكيف ضاقت داره التي بناها بشق الأنفس بهذه النفائس، موردا الكتب، والمجلات التي شكلته كشاعر ومثقف، وعلى رأسها “مجلة العربي”، طبعا مع ذكر الكثير ممن ساهم بصقل موهبته الشعرية والنقدية، والفنية كرسام أيضا.
ورغم تشعب السيرة بين هذا وذاك لن تخطئ عينك طبعا إسماعيل زويريق الشاعر، الذي تنبلج أشعاره من حين لآخر حسب المواقف والتفاعلات مع الناس والأحداث، وستطلع على نفحات من شعره في شتى المجالات، والمديح خاصة الذي أبدع فيه كمّا وكيفا ما لم يبدعه شاعر، وكذلك الرثاء، إذ ستتوقف كثيرا عند رثاء أمه المؤثر.
سيرافقك السارد أيضا كراوية للشعر منذ الصفحات الأولى، فالكتاب يزخر بالاستشهادات الشعرية لشعراء كثر من قبيل الهواري وحافظ إبراهيم وأنور العطار وشوقي، وغيرهم من القدامى والحداثيين، ناهيك عن الأمثال والحِكم والأقوال المأثورة.
على المستوى الشخصي ستجد في “العرصة” أول من أجاز السارد كشاعر، وأول محاولة شعرية له، وأول إلقاء على الملأ سنة 1962، أيضا مؤلفاته التي لم يذكر منها إلا ما جاء في السياق، خصوصا الدواوين التي تعدّ بالعشرات، والكتب النقدية والفنية، ناهيك عن موسوعات الشواعر والشعراء، والأمثال، والألوان، وغير ذلك.
في “العرصة” أيضا طقوس السارد في الكتابة، وهي طقوس لا تعتمد على أي طقس، اللهم الحالة الوجدانية الخاصة التي جعلت الشاعر يرفض نظم الشعر تحت الطلب، إذ يورد بعض المواقف التي امتنع فيها عن المجاملة في الشعر.
يقع كتاب “العرصة” بجزأيْه في 657 صفحة ، وهو من إصدارات “المطبعة والوراقة الوطنية” سنة 2022.

ـ محمد النعمة بيروك ـ