
حين تجمع نوتة إلى نوتة ، أي عبث إلى عبث ، يسفر غامض الشكل عن وضوح الشكل . هكذا تبنى الموسيقا من نوتات تفترق وتجتمع . نهفو إليها بفرح الموعود في هذيان الكون .
قرّب نوتة من نوتة تسمع صوت المطر .
ضع نوتة على نوتة فتصير جزءاً من حكاية عالم سحري التكوين ، لا يشبه شيئاً ممّا حولك .
أَتَذَكَّر أيّام زمان عندما كنت طفلاً وكان صوت الريح يدخل في ثقوب قصب الغزّار على طريق المدرسة . سرعان ما يتحوّل إلى نايات بأصوات متعددّة تحمل هذيان الريح وتنقل فرح الراعي بولادة حَمَل صغير وخوفه من ذئب يحاصر القطيع . وكان الصوت يستدرجني إلى البعيد ، إلى شتاء كثيف يغطّي السفوح . وكنت أطيع صوت القصب وأركض على طريق مثقوبة بنعل الحذاء . أمشي على طريق ” القادوميّة ” كل صباح بفرح الموعود بهديّة ، لا لأحفظ الدرس بل لأنشد في الجوقة نشيد الأناشيد . لم أكن ” أُنَشِّذْ ” في اللحن ، فقد كان يسري في صوتي والإيقاع ينبض خفقة خفقة في قلبي .
لم أكن ولداً صقلته المدرسة فأصبح موسيقيّاً أو قصب ثقبته الريح فأصبح ناياً ، بل كنت صوتاً بين الأصوات يغنّي الحكاية كي أحبّ أكثر، ولا عمر يكفي لكل هذا الحب !
كنت صغيراً جداً عندما أخذوني إلى باحة السرايا في ” جُبَيْل – بيبلوس ” مدينتي الأولى ، أقف وسط الجوقة كعلامة موسيقيّة .
وكان ناظر المدرسة يقفز بين الجوقة ويصرخ : إنتبهوا ! انتبهوا ! لوحّوا بأياديكم حين يمرّ الرئيس وغنّوا بوقار ! ومرّ الرئيس ملوحّاً بيديه في وسط الباحة وجلس على كرسيّ مخصّص لسيادته وسط هرج ومرج ، ولم يأبه بأصواتنا . ولكنّنا تابعنا إنشادنا لوحدنا كأنه لم يكن ، وانطربنا ! وتلك كانت بداية فرح مدرسي غامضاً على وجوهنا ودونما التفات الحضور إلى أعماقنا .
وتضيق الطفولة ، وأصل إلى المدى المترع بالرياح والتي حملتني معها بعيداً عن ذلك السكون المرهق . سكنتني فتنة الموسيقا عندما أصبح النسيم ريحاً . أحسست بأن الأرض تطير بي وترقص كمهارة الدوريّ في مراوغة بندقية الصيّاد ، فلا حيلة له إلاّ خفّة الطيران ليفلتَ من صيد مؤكد وليدور في السماء حافي القدمين . وما قد مضى – مضى ، وها أنا اليوم أرنو إلى أفق بعيد .
وحدها الموسيقا تحررني من الزمن وتأخذني إلى ذلك الأفق البعيد .
لست ناقداً أو باحثاً أو عالم موسيقا Musicologue
أنا أكتب الموسيقا ولا أكون على الكتابة رقيباً . وأعدّ لها من الافق المزيّن ما استطعت . وانتظر لتستجيب لهفة فيّ وتَيْنَع حين اسقيها .
أكتب ما يحلو لي في ومضة زمان عَجولٍ لا ينتظر .
أكتب لعصفور يُمعن في الهديل ويهدهدني .
أكتب لسؤال مجهول في صوت ديك الفجر .
أكتب لأبرأ من وحشة الصمت .
أكتب ما استطيع من آيات الجمال : في المرأة والوردة وما في الخيال من مخذون ذاكرة لا تنفذ .
أكتب لأحرّض الناس على التوهّج وبلوغ النشوة لهذا الكائن الذي يمضي وحيداً .
الموسيقا برق يجمع في دواخلنا مشاعل مضيئة . تكوينا من الداخل . زلزال يضربنا حين لا نكون في انتظاره .
عمليّة تلقائيّة . نوع من الانبثاق الداخلي ينبع من أعماقنا كما تنبجس الينابيع من جوف الصحراء .
وحتى الآن ورغم كل هذه الطريق الطويلة لم أكتب بعد الموسيقا التي أحلم بكتابتها . أسمعها في الحلم ، وعندما أصحو ، تضجّ بها أذني بصمت صارخ إلى ما لا نهاية .
أليس في الموسيقا عبثٌ لا ينتهي ! فهل أصدّق نغم مصنوع من ريشة العود ؟
أضع نفسي في الريح والجنون ، فليس في وسعي إلاّ أن أكون مجنوناً . ولن أُشفى ولا اريد أن أُشفى من هذا الجنون لأنه مرض ملازم لا يعني الشفاء منه سوى إنجاز الموسيقا المجدولة من غيمة المجاز والصورة وأشرب الكأس حتّى الثمالة !
هي ورطة ، ولكنها ورطة جميلة ! حصان معلّق على وتر ، ما عليه سوى الاندفاع إلى الهاوية والقبض على الصهيل .
إن القلب ليس في القلب . قد نجده هناك على رصيف الوقت والأشعار . وقد نجده دون أن نبحث عنه ، دون أن نلحق به ، وهو يعيش أمامنا يبتعد عنّا ليلحق بصدى إيقاع بعيد .
أعود إلى المدرج الموسيقي على ورق أبيض لا ينتهي كأنه سِفر العدم . ربما نعثر لا محالة على جدوى هذا العبث . أعني على جمال هذا العذاب المتحوّل إلى سعادة لدى السماع .
من أين جائتني القوّة لأدوّن على وتر من هواء مالح كل هذه النوتات ؟! ألم ينشف القلب من غبطة الجمال ، من سأم المسافات المسيجّة بالنرجس ؟ المسافات الموصولة إلى وحشة النفس العطشى إلى الصمت .
مخاض الكتابة الموسيقيّة دقيق ، كمن يستمع إلى دقّات قلب الجنين ، نتخيّل ملامحه وحركاته ونقول : هو ثأرنا من الوقت والمسافة والتلاشي وشغف انتصارنا على العدم .
شكراً للأكاديميّة المغربيّة على حفلة التنصيب . في هذا اللقاء الحميم . وأكثر ما يعنيني هو إنسانيته والقدرة على إعادة الدهشة من جديد . وذلك عبر الرحيل مع الطيور العاصية إلى ذلك الأفق البعيد الواضح المعالم في تلك الأقاصي الزاخرة ، رغبة في التعبير عن فرح غامض ، عن سعادة ما ، وسط هذا الظلام الدامس ، علّنا نستطيع أن نغيّر هذا العالم ونستبدل فوضاه بإيقاع الموسيقا .
وبعد ، إلى أهلي في المغرب ، شكراً ، شكراً ، كقمر مكتمل لكل هذا الحب . لقد لثمت أرضكم ودخلت بطيّات قلوبكم التي لا حصر لها ، وسفحت فوق دروبكم شتّى الأغنيات .
أذكر عندما زرت مدينة ” سبتة ” أخذتني طفلة بين ذراعيها وقالت لي : أحبكَ ! فقلت لها : وأنا أحبكِ ! وأحسست بأنني انتصرت – وإيّاها لمغربيّة المدينة رغم تأشيرة الدخول الصعبة ومعاناة الانتظار الطويل على المعبر .
ما هي تلك الموسيقا التي تهدهدكم بإيقاعها ؟! فإن هذا اللحن هو نفسه الذي أنشدته بأمكنة مختلفة ، ولكن عندكم أضحى النغم مختلفاً في بريق لحظة خاطفة .
أنسى مشقّة الطريق وظمأ المسافة حين أصل اليكم ، أصفو إلى أصواتكم الصادحة والى لمساتكم الساحرة .
إن في قلبي لحناً يحمل عبء المقام الذي لم يمنحه سطوعاً إلاّ حضوركم الشجيّ .
يا أهلي في المغرب
شكراً لكل هذا الحب






