
ـ إلى فيروز ـ
أيّتها الثّكلى المباركة،
أن تشيِّع الأمُّ جثمان ابنها، هو أمرٌ مُضادٌّ للطبيعة. الأمُّ لا تشيِّع بل تستقبل. لا تُودِّع، بل ترحِّب. الأمُّ ترحابٌ يفتح باب العالم لابنها ولا ينبغي أن يغلقه دونه أبداً. لكنّ الأقدار الشخصيّة الحزينة التي تجعل الأبناء يرحلون أحيانا في حياة أمهاتهم تنتهك هذا القانون الوجوديّ الأسمى.
وكم صار هذا الانتهاك شائعاً وغاشماً في عالمنا العربيّ المنهار كما تعلمين. لذلك رأيتُ في حزنك المهيب حزنَ جميع ثكالى الأراضي الكنعانية، وهنّ ثكالى فلسطين وسوريا ولبنان واليمن والسودان والعراق وكلّ رقعة في البلاد العربيّة المحكومة بالقهر والفقر، ممّن حصدت وتحصد الأنساق السلطويّة الفاسدة والمنظومات الإجراميّة والظّلاميّة الأعمار اليانعة لأنجالهنّ، وممّن حملتِ أنتِ وابنك زياد جراحهنّ الغائرة في قرارة فنّكما المتورّط في قياماتنا الطويلة. أجل، رأيت في صمتك المقدس خلال عزاء زياد – صمتك الّذي هو أقصى حدود الصراخ وأبعد تخوم الدّمع – ذلك الرّابط الرّوحانيّ الذي ظلّ، في تلك اللحظات المجلّلة بالحزن، موصولاً بينك وبين ابنك، وهو الرّابط الّذي غذّى كلّ الأعمال العالية الّتي أنجزتماها معاً مصداقاً لقداسة الميثاق العميق الذي انصهرت فيه روحاكما الكبيرتان الطّالعتان من أغوار الشغف والمحنة معاً.
وإنّ تورّطكما اللانهائيّ هذا في جذور الألم كما في جذور الفرح الكنعانيّ هو الّذي وحّد الفرقاء والطوائف في رحاب غنائكما الذي حقّق معجزة جمع ما فرّقه السّاسة وحسابات المحاصصة سواء في لبنان أو في عموم الجغرافيات العربيّة الممزقة بسيوف القبائل والعصبيّات، تماماً كما كان فرقاء الحرب الأهلية اللبنانيّة ذات زمن غير بعيد يتراشقون بالرصاص في النهار ويتوحّدون في سماع صوتك في المخابئ اللّيليّة. كان فنّك وفنّ ابنك وسيظلاّن تعويذةً حاسمة تكسر لعنة الموت لأنكما معاً سليلا شجرة الحياة التي لا يفنيها شيء، وقوّتان رفيعتان من قُوى المقاومة المرابطة في الخندق الدّفاعيّ الأخير عمّا تبقّى من أقاليم الجمال والكرامة، ورمزان أيقونيّان لسلطان الحبّ الّذي يعرف كيف يحوّل كلّ فراقٍ أليم إلى لقاءٍ عظيم.
الرحمة والسكينة لروح زياد والصبر وطول العمر لك.