
في تدوينته المفتوحة الموجهة إلى رضا بنجلون، المدير الجديد للمركز السينمائي المغربي، يقدم بلال مرميد نموذجًا راقيًا من الخطاب النقدي المهني، يجمع بين حرارة الالتزام الأخلاقي وصرامة الملاحظة التقنية. ليست التدوينة مجرد عتاب أو تنبيه إداري، بل بيان تأملي في حال السينما المغربية، من داخل المهنة ولأجلها، ومن قلب الغيرة الصادقة على مؤسسة يفترض أن تكون الرافعة الأولى لصناعة الصورة في البلاد.
يُبنى نص مرميد على نبرة مزدوجة، ظاهرها خطاب شخصي يخاطب “العزيز رضا بنجلون” بنبرة ودّية، وباطنها بيان عام يوجه إلى كل من يعنيه أمر الثقافة البصرية في المغرب. بهذا الأسلوب الذي يجمع الحميمية والأسلوب التقريري الصارم، ينجح مرميد في أن يجعل من مخاطبه الشخصي رمزًا للمنظومة السينمائية برمتها. فـ”أربعة أشهر من الصمت” ليست مجرد ملاحظة زمنية، بل استعارة لركودٍ مؤسسيٍّ يهدد الحيوية الثقافية للقطاع.
من حيث البنية الخطابية، يعتمد الكاتب على تصعيد تدريجي في النقد، يبدأ من الإشارة إلى غياب التواصل، ويمر عبر محاكمة البرمجة الفنية للمهرجان الوطني، ليصل إلى ذروة رمزية حين يقارن المشهد المغربي بـ”ليلة سيزار” في فرنسا، في مفارقة كاشفة بين نظام سينمائي ناضج ومشهد محلي ما يزال أسير “الأفلام القديمة والمكرورة”. هذه المقارنة ليست لغرض التبخيس، بل لفضح الفجوة بين المعيار العالمي والمنطق المحلي المتهاون.
ينتقد مرميد بحدة الانحراف عن جوهر المهرجان الوطني الذي يفترض أن يكون واجهة للمنتوج الجديد، فإذا به يتحول إلى “سلة توضع فيها سلع بالية”. الجملة القصيرة المكثفة تكتسب هنا وظيفة رمزية: إنها توصيف دقيق لأزمة التكرار والجمود، حيث تغيب روح التجديد لصالح تقاليد مهرجانية استهلاكية.
كما لا يغفل الكاتب عن بعدٍ فلسفي ضمني حين يشير إلى أن السينما ليست ترفًا ولا تسلية، بل مكون من مكونات الوعي الجماعي والرهانات الوطنية، خصوصًا في سياق بلد “مقبل على استحقاقات كبرى”. من هنا، يتحول النقد الفني إلى نداء وطني من أجل ترميم الثقة في الثقافة كقوة ناعمة للدولة.
من الناحية الأسلوبية، يجمع مرميد بين الوضوح الصحفي والدقة الجمالية. جُمله قصيرة، مشحونة بالإيقاع والتكرار المقصود لعبارة “العزيز رضا بنجلون”، التي تؤدي وظيفة بلاغية مزدوجة: فهي تخفف حدة الخطاب النقدي، لكنها في الوقت نفسه تذكّر المتلقي بمسؤوليته الأخلاقية والمهنية. كما أن التدوينة تنتهي بما يشبه البيان الأخلاقي: “هي دعوة للتقويم والإصلاح، وليست نهائياً دعوة للمواجهة”، وهي خاتمة توازن بين الصراحة المهنية واللباقة الإنسانية.
يمكن القول إن التدوينة تمثل تجسيدًا ناضجًا للنقد الثقافي التطبيقي في المغرب: نقد لا يتوارى خلف المفاهيم المجردة، بل يتوجه مباشرة إلى الفعل المؤسساتي، محرضًا على تغيير الذهنيات قبل اللوائح. إنها في عمقها صيغة من المقاومة الناعمة ضد الركود الإداري وضد التطبيع مع mediocrity الفنية.