‏آخر المستجداتلحظة تفكير

مصطفى المنوزي: الحق الذي يراد به باطل.. ذرائع إقصاء الحوار والنقد داخل الأحزاب

في المشهد الحزبي الراهن، تتكرر لازمتان تُستعملان كلما طُرحت أسئلة المساءلة أو فُتحت أبواب النقد الداخلي:
الأولى تزعم أن الشؤون الحزبية “مسألة داخلية” لا تخص إلا المنخرطين وأصحاب الاشتراكات، والثانية تُشيع أن الجموع العامة والمؤتمرات “سيدة نفسها”، تفعل ما تشاء بمن حضر وبالنصاب القانوني، لكن وراء هذين الادعاءين، يكمن حق يراد به باطل، وخطاب يسعى إلى شرعنة الانغلاق باسم السيادة وتدجين النقد باسم التنظيم.
أولًا: من استقلالية القرار إلى خصخصة السياسة
حين يُقال إن الشأن الحزبي “داخلي”، يُراد بذلك ظاهريًا حماية استقلال القرار عن التدخلات الخارجية، غير أن الممارسة الفعلية تجعل من هذا المبدأ ستارًا لاحتكار القرار وتكميم النقاش.
يتحول الحزب إلى نظام مغلق، أشبه بشركة أو عائلة تنظيمية، حيث الولاء شرط للانتماء، والمساءلة تُعد نوعًا من الخيانة.
هكذا تُختزل السياسة في دائرة “العضوية” بدل أن تكون فعلًا عموميًا مفتوحًا على المجتمع، أي على المواطنين الذين يُفترض أن الحزب يمثلهم. إنها صورة من خصخصة السياسة: تحويل الفضاء الحزبي من وسيط ديمقراطي إلى بنية بيروقراطية تنغلق على ذاتها وتعيش على شرعيتها الداخلية فقط.
ثانيًا: سيادة المؤتمرات بين الشكل والجوهر
أما الذريعة الثانية، القائلة إن “المؤتمرات سيدة نفسها”، فتبدو من حيث الظاهر تجسيدًا للديمقراطية الداخلية. غير أن هذه السيادة كثيرًا ما تُختزل إلى إجراء شكلي يهدف إلى تزكية قرارات معدّة سلفًا؛ فالنصاب القانوني لا يعني بالضرورة النصاب الديمقراطي، والمصادقة لا تعني دومًا الاختيار الحر ، لأن المؤتمرات التي تُدار بمن حضر، وبتقنيات “التحكم اللين”، لا تمثل سيادة القواعد بل خضوعها المنظم ، فيها تُسلب القواعد حقها في المعلومة والنقاش، وتُختزل إرادتها في تصفيق جماعي يُمنح غطاءً قانونيًا وشرعية شكلية.
ثالثًا: في جوهر المفارقة والمسؤولية المشتركة
صحيح أن بعض هذا “الحق” الذي يراد به باطل قد يصدق، في بعض تجلياته، على السلطة العمومية ذاتها، كما يصدق على بعض الذين انشطروا عن الحزب وشكّلوا أحزابًا أو تيارات مستقلة وتحولوا إلى خصوم من خارجه.
فالمسؤولية هنا مركّبة ومتبادلة: إذ لا يمكن تبرئة أحد من المساهمة في إنتاج الفراغ التنظيمي والفكري الذي سمح بانغلاق الحزب وتآكل حيويته ، فقد تمّ ترك مساحات كاملة من الحضور العمومي والسياسي بدون حراسة فكرية أو نقدية، وجرى تحريف قانون الصراع الداخلي عن مساره الطبيعي في سياق وحدة وصراع المتناقضات الجدلي، حيث كان يفترض أن يؤدي الاختلاف إلى التطور لا إلى الانقسام، وإلى التراكم لا إلى التآكل.
رابعًا: من منطق الاستقطاب إلى منطق الاكتساب
إن المخرج من هذه الحلقة المفرغة لا يمر عبر إعادة إنتاج منطق الاستقطاب الثنائي بين الولاء والمعارضة، أو بين الداخل والخارج، بل عبر الانتقال إلى منطق الاكتساب، أي تحويل التناقض إلى طاقة تعلم متبادل، وتجميع الرأسمال الرمزي والمعرفي بدل تبديده ؛ إن مقاربة الاكتساب بدل الاستقطاب تُمكّن من استعادة الحزب كفضاء للتعدد لا ساحة لتصفية الحسابات، وكمدرسة لتكوين الفاعلين لا لتقنين الولاءات ، ففي التفكير النقدي التوقعي، الصراع ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لبناء وعي جديد يتجاوز الانقسام نحو خلق المعنى المشترك والمسؤولية المشتركة.
خامسًا: نحو استعادة المعنى الديمقراطي
البديل هو إعادة الاعتبار للسيادة التنظيمية كأداة لتمكين القواعد من القرار لا لحماية القيادة من النقد.
فالحزب، في جوهره، فضاء عمومي للتعاقد السياسي بين المواطنين، لا مؤسسة مغلقة تحتكر الحقيقة.
ولا معنى لاستقلالية تنظيمية لا تُترجم إلى شفافية، تداول، ومحاسبة، لأن الديمقراطية ليست مجرد نظام اقتراع، بل ثقافة نقدية ومسؤولية جماعية.
سادسًا: استحضار الذاكرة والإنصاف التنظيمي
وبغضّ النظر عن كل الخلافات الطارئة، لا مناص من استحضار حقوق المؤسسين والمقصيين، ومكاسب الحزب وتاريخه؛ فالحركة السياسية التي تنسى جذورها وتضحيات روادها، تُفرغ ذاتها من الشرعية الرمزية التي تؤسس لوجودها.
إن العدالة التنظيمية لا تنفصل عن الذاكرة النضالية، كما أن الوفاء للمبادئ لا يتحقق بالتمجيد الشعاراتي، بل بمراجعة نقدية تُنصف الماضي لتؤهل المستقبل ، ومن هذا المنظور، يصبح التفكير النقدي التوقّعي ضرورة أخلاقية وسياسية، لا لمجرد إصلاح التنظيم، بل لتحرير المعنى وتجديد الفعل السياسي في زمن اللامعنى.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button