‏آخر المستجداتلحظة تفكير

مصطفى المنوزي: من التوجيه الإسترشادي إلى السردية القضائية: حين تُختزل العدالة في مؤشرات وتُفرغ من معناها

(تحذير بصيغة ضمير الوطن: نعم، دافعنا عن استقلال القضاء، لكن الخطر القادم هو أن يستقل القضاء عن الوطن).

لا أحد ينكر، بحد أدنى من النزاهة الفكرية، أن المغرب راكم جملة من المكتسبات في مسار استقلال السلطة القضائية: من دسترة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، إلى إنهاء وصاية السلطة التنفيذية على النيابة العامة، إلى جهود الرقمنة وتخليق المرفق وتأهيل العنصر البشري. لكن المعضلة ليست في المكتسبات ذاتها، بل في طريقة توظيفها، وفي المسافة بين النص والواقع، بين النوايا المعلنة والآثار المتحققة.

فمن حيث أردنا تكريس الاستقلال، نخشى أن نكون بصدد تشييد استقلال بارد، يُفرغ الوظيفة القضائية من روحها، ويُحولها إلى آلة إنتاج ميكانيكية، تُقاس بالإحصائيات لا بالعدالة.

أولًا: حين يتحول التوجيه إلى قرار مقنّع

في مشهد لافت، أصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية توجيهًا “إسترشاديًا” بشأن آجال البت في القضايا. لكنه، ورغم غلافه المعنوي، نُفّذ كأمر واقعي، يُقاس به العطاء المهني، وتُربط به الحوافز والترقيات.

لقد أُدخل الزمن القضائي إلى سوق الأداء، وتحول من ضمانة للعدل إلى أداة للفرز والقياس، دون اكتراث بتعقيد القضايا أو هشاشة أطراف النزاع. إنه زمن العدالة الرقمية… بلا عدالة إنسانية.

ثانيًا: من خطاب التثمين إلى سردية الإنضباط

في تقديمه السنوي، احتفى الرئيس المنتدب بقرارات لمحكمة النقض، واصفًا إياها بالنماذج التأويلية الرائدة. غير أن هذه النماذج سرعان ما تحوّلت إلى مرجعيات إلزامية، تُقدَّم للقضاة على أنها القاعدة، لا الاجتهاد. هكذا انزلقت المؤسسة من مجرد فضاء للتوجيه إلى سلطة تصوغ سردية قضائية معيارية، تُمارس من خلالها وصاية معنوية غير مصرح بها، لكنها فاعلة ومؤثرة.

لقد انتقلنا من قضاء يُنتج الاجتهاد، إلى قضاء يُلقّن الاجتهاد.

ثالثًا: عندما يُقاس العدل بالكمّ

إن الخطر لا يكمن فقط في التوجيه أو في اللغة المعيارية، بل في النزعة البيروقراطية التي بدأت تطبع الحقل القضائي. فالقاضي لم يعد مسؤولًا فقط عن الإنصاف، بل عن ملء الجداول وتحقيق النسب؛ والاجتهاد لم يعد مغامرة معرفية، بل محاكاة لنماذج جاهزة.

وهكذا، تنقلب الوظيفة من إنتاج المعنى إلى استنساخ القرار، ويغدو المتقاضي رقمًا في سجل، لا صوتًا في محكمة.

خاتمة بصيغة السؤال الوطني والحس المهني الحقوقي

لقد طالبنا، بوعي ومسؤولية، باستقلال القضاء. ولكن، أي استقلال نريد؟ استقلال عن السلطة التنفيذية؟ نعم. لكن ليس استقلالًا عن الوطن، عن روحه، عن التزامه الأخلاقي تجاه المواطن.

إن الرسالة التي وجهها الرئيس المنتدب للمجلس، المرفقة بـ”القرار”، تثير مفارقة غريبة: فهي تُحذّر من التطبيق الحرفي للآجال حفاظًا على جودة الأحكام، لكنها في ذات الوقت تُعيد تأكيد السلطة المعنوية للقرار. وكأننا بصدد ازدواجية تُرضي المانحين الدوليين من جهة، وتحافظ على ماء وجه المؤسسة من جهة أخرى، بينما تظل الحقيقة ضائعة بين التوجيه والتقرير، بين الإسترشاد والإلزام.
إنه زمن دقيق، لا نحتاج فيه فقط إلى استقلال القضاء، بل إلى استقلاله الواعي، النابض، المتشبع بروح الوطن وعدالة الإنسان.

فما نراه اليوم ليس مجرد انزياح تقني أو تأويلي، بل مسار صامت يُعيد هندسة العدالة خارج معناها، من خلال بوابة الأرقام والإحصائيات، في اتجاه أكثر خطورة: تحويل العدالة من منظومة قيم إلى منظومة ضبط، ومن الرقمنة إلى الأمننة، ومن التوجيه إلى التقييد.

إننا في حاجة إلى وقفةٍ جريئة، نعيد فيها بناء الثقة في القضاء، لا كآلة للإنتاج ولا كذراع للتقنين، بل كضمير حيّ للمجتمع، ومؤسسة لحماية الحق، لا لتبرير السلطة.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button