‏آخر المستجداتقضايا العدالة

مطاحن في قفص الاتهام.. القمح المدعم يُباع بسعر السوق السوداء

(كش بريس/ برادي حكيم من فاس)ـ تتسارع تداعيات ما بات يُعرف بـ “ملف الدقيق المدعم”، بعد أن أصدر الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بفاس قرارًا يقضي بإغلاق الحدود في وجه ثلاثة أرباب مطاحن، يشتبه في تورطهم في تلاعبات مالية وإدارية خطيرة تتعلق بتوزيع الدقيق المدعم الموجه للفئات الفقيرة.
القرار، الذي يأتي بعد تحقيق قضائي فتحته النيابة العامة بناءً على شكاية رسمية من إحدى الهيئات الرقابية، يسلط الضوء مجدداً على هشاشة منظومة الدعم بالمغرب، وعلى ثقافة الإفلات من العقاب التي ما زالت تتسلل إلى بعض مفاصل الاقتصاد الوطني.

من دعم اجتماعي إلى سوق سوداء:

تكشف المعطيات الأولية عن ممارسات تُعدّ فضيحة بكل المقاييس: أرباب مطاحن يقومون، حسب المصادر، بتغيير أغلفة أكياس الدقيق المدعم بأخرى تحمل علامات تجارية خاصة بهم، ثم يطرحونها في الأسواق بأسعار مرتفعة، ضاربين بعرض الحائط الهدف الاجتماعي من الدعم العمومي.
إنها عملية ممنهجة لتبييض “المال المدعم”، واستغلال حاجة الفقراء لتحقيق أرباح مضاعفة. الأخطر من ذلك أن بعض التقارير تشير إلى تواطؤ مسؤولين في قطاع الحبوب والقطاني، عبر تزوير فواتير تُحوّل الدقيق المدعم إلى منتوج تجاري غير مدعم، فيتحول الدعم إلى مصدر ربح شخصي بدلاً من أن يكون وسيلة عدالة اجتماعية.

من فاس إلى الرباط.. دوائر التحقيق تتسع:

لم يتوقف الأمر عند حدود فاس، إذ أعلن الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط عن فتح تحقيق موازٍ بعد تصريحات مثيرة أدلى بها البرلماني أحمد التويزي، تحدث فيها عن وجود مطاحن “تطحن الورق مع الدقيق”، في إشارة إلى احتمال وجود غش يمسّ سلامة المستهلك ويهدد الأمن الغذائي الوطني.
هذه التصريحات، التي فجرّت عاصفة من الجدل، عرّت واقع قطاع ظل لعقود محاطًا بضباب من الغموض والمصالح المتشابكة، حيث يختلط المال بالدعم، والربح بالفساد.

ردود الفعل تتباين.. والشفافية مطلب ملحّ:

في المقابل، سارعت الفيدرالية الوطنية للمطاحن إلى نفي تلك الاتهامات، معتبرة أنها “باطلة وغير مدعومة بأي أدلة”، وشددت على التزامها بمعايير الجودة والنزاهة. غير أن الشارع المغربي، ومؤسسات الرقابة المدنية، لا يبدون ذات الاطمئنان، إذ دعا المرصد الوطني للشفافية ومحاربة الفساد إلى تدخل المكتب الوطني للسلامة الصحية (ONSSA) لإجراء تحاليل مستقلة وميدانية، ونشر نتائجها للعموم، لقطع الطريق على أي محاولة للتستر أو التسييس.

منظومة دعم في حاجة إلى إعادة بناء:

القضية الراهنة ليست مجرد ملف قضائي عابر، بل تكشف عمق أزمة منظومة الدعم العمومي بالمغرب، التي لم تعد قادرة على ضمان وصول الدعم إلى مستحقيه الحقيقيين. فمن “الزيت المغشوش” إلى “الدقيق الفاسد”، تبرز الحاجة الملحّة إلى رقمنة منظومة التوزيع، وتفعيل آليات التتبع والمحاسبة في كل مراحل سلسلة الإنتاج والتوزيع.
كما أن هذه الفضيحة أعادت إلى الواجهة سؤالاً أكبر: هل يمكن لسياسات الدعم أن تظل رهينة شبكات الريع والمصالح الخاصة، أم آن الأوان لإصلاح جذري يربط الدعم بالعدالة الاجتماعية لا بالامتيازات المصلحية؟

إن قضية “الدقيق المدعم” تتجاوز مجرد تلاعب مالي؛ إنها مرآة لأزمة بنيوية في الحكامة والرقابة داخل القطاعات الحيوية. إن ما كشفته التحقيقات الأولية ليس سوى قمة جبل الجليد في منظومة دعم تحتاج إلى تطهير ومراجعة جذرية، حتى لا يتحول خبز الفقراء إلى لقمة مغمسة بالفساد.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button