‏آخر المستجداتفنون وثقافة

من المسرح الفردي المونودراما: مسرحية” نيني يا مومو” المفرد المتعدد

كيف لجسدِ ممثلةٍ تقف وحيدةً طيلة زمن العرض المسرحي أن يملأ الخشبة؟
وكيف تمكنت على الاستحواذ على عشرات من الجمهور وتوحد نظرتهم ووجدانهم نحو فعلها الدرامي؟

تلك جوهر الأسئلة التي تصاحب المتفرج المدعو لمشاهدة عرض مسرحي ينتمي للمونودراما، كالعرض الذي قدمته فرقة السلام المسرحي عند افتتاح النسخة الرابعة من الويكاند المسرحي لأرتو يوم الجمعة 23 ماي 202‪5 بفضاء المركز الثقافي ببلدية آيت أورير/الحوز. كان عنوان العرض: “نيني يا مومو” من تأليف مولاي عبد الحق الصقلي، وإخراج عبد العزيز أشنوك، وتشخيص نادية المسناوي.
قام العرض المسرحي على نص معبر عن شكل من أشكال الحياة صار يفرض نفسه في الواقع المغربي بشكل جلي. اختزل هذا الشكل في العبارة التي امتلكت قوة التداول: “الأم العازبة”. اعتمد المؤلف في بناء النص المسرحي على المتواليات الحكائية التالية:
الأم قبل الحمل \ الأم أثناء الحمل\ الأم بعد الوضع.
ليتوقف الحكي بتوجيه سؤال إشكالي تتعدد فيه الإجابة عن من المسؤول؟
لقد كان بناء النص المسرحي بناء خطيا؛ له بداية (هادئة) لينتقل إلى وسط( مضطرب) ليصل إلى نهاية(مأساوية). ظلت أسئلة النص، الذاتية والموضوعية، أسئلة قدرية تواجه أشكال الحياة المفروضة لتؤكد أن الشخصية لم تكن لديها مواقف اختيارية تنم عن الحرية والمسؤولية عن الفعل بمعناه الوجودي. لهذا اكتفت بالدفاع والاستكانة والتعايش كي تخلق توازنا مصطنعا.. إلى اللحظة الأخيرة من العرض عندما تتخلص من الخشبة وكل ملحقاته وتهبط عند الجمهور فتنسلخ من ذات الممثلة عائدة إلى الأنا الحية لنادية المسناوي لتترافع بقوة؛ رافضة الوضع المُمَثل على الركح، مدمجة كل الجمهور في عملية تفاوض تمنح معنى لهذه الوضعية الاجتماعية ( من المسؤول عن هذا الوضع وكيف نواجهه جميعا؟؟؟)


وُكِلَتْ هذه الحمولة النظرية إلى الفنانة الممثلة نادية المسناوي، التي اجتازت بتلون جسدها كل الوضعيات السابقة، مستغلة كل أشكال الحركات، فامتلأت الخشبة بمظاهر الحياة. عبرت عنها بملامح الوجه وحركات اليد وتنقلات الرجلين بتوظيف الحركات البطيئة عند التوجه نحو المجهول أو السريعة عند الإقدام على تحقيق فعل درامي وإلى القفز والنط والسقوط وردود الفعل عند الصفع والعراك الوهمي دون إغفال حركات الرقص المثيرة والبكاء المتعدد درجاته، والسجود المعبر مع ضم وإخفاء الوليد. لقد استطاعت نادية أن تحول الخشبة الشبه خالية من الأكسسوارات إلى خشبة مملوءة عن آخرها. فاستغلت الجسد للتعبير عن وضعية المولود عندما تركز على منطقة (المهد) يمينا، و عن الذكريات/الماضي عند الانتقال إلى منطقة (الصندوق) يسارا، وعن تأزم الفعل الدرامي عندما تنتقل إلى أعمق منطقة في الخشبة لتتقيأ على (الشجرة). دون إغفال ما قام به المشجب (العلاق) من صنع التمفصلات والتحول عند كل لحظة مفصلية بين الأحداث. كل هذا يؤكد على أن الخشبة ضاقت بجسد وبصوت الممثلة. وكان بالإمكان أن يخرج من هذا الجسد المسرحي الجميل الشيء الكثير لو اختزل المخرج بعض الحوارات التقريرية/الخطابية في شكل حوارات إيحائية قد تنوب فيها الحركة عن الكلمة أو الجملة الإيحائية مثل إيحاءات المزبلة اغتصاب القطة دون معرفة المغتصب، العثور على آلات موسيقية في المزبلة حولت الأب والأم إلى فنانين دون إغفال علاقة المزبلة ورمي الرضع…
إن ذات الممثل في المسرح الفردي، رغم ما قد يملكه من قدرات، تحتاج إلى عناصر خارج الذات لملأ الفعل الدرامي بالدلالة المرجوة ولأداء الوظيفة الاستيطيقة في أبهى صورها؛ لذلك وظفت الإنارة والموسيقى في تناغم تام مع حركات نادية المسناوي. لم تقتصر الإنارة على التقطيع الزمني بالفصل والوصل، بل تحولت إلى تجسيد اللاشعور وإبرازه بشكل واضح على الخشبة وقد بلغ ذروته عند تحويل الإضاءة إلى دائرة مركزها وجه الممثلة فجعلته سافرا بعيدا عن كل الأقنعة والمساحيق. عبرت الإنارة بذلك على أن الوضعية المأساوية للعرض لا تحتاج إلى أي حجب فحققت بذلك وظيفتي الكشف والفضح فنقلت الأحداث من العتمة إلى الضوء، فساهمت في حشر المتفرج في عالم الخيال.
لم تكن الموسيقى في عرض “نيني يا مومو” عنصرا كماليا، كما توظفه بعض الفرق المسرحية الفاشلة لخلق الصخب وتمطيط زمن العرض، بل كانت عنصرا فعالا في صناعة الأثر النفسي المرجو من العرض. تَنِمُّ المقاطع الموسيقية الموظفة في ” نيني يا مومو” عن ثقافة عريضة لواضعها فقد أبان عن قدرة الانتقاء للمقامات المناسبة وكيفية الانتقال بين الهادئ والصاخب وبين موسيقى الإخفاء وموسيقى التجلي وكيفية مسايرة لحظات البكاء والضحك، فتحولت الموسيقى إلى امتداد لذات نادية المسناوي في السراء والضراء، في الرقص والاستكانة، في الأمل واليأس، فعملت بذلك على التخفيف من نشاز بعض الحوارات وخطابيتها الصارمة فكانت اللحمة الرابطة بين أصعب المواقف الدرامية الموظفة في العرض.
عبد العزيز أشنوك، مخرج المسرحية، طاقة فنية في حالة كمون، تنفجر بين الحين والآخر، كانفجار ضحكته المتقطعة المتميزة. إنه عراب هذا العرض وضابط إيقاعاته الجسدية والموسيقية والإشعاعية. في مسرحية “نيني يا مومو” سيكتشف المشاهد بأن لكل مسرحية ناجحة إيقاعا خاصا بها، تجلى إيقاع المسرحية في ترديد بكاء متميز للرضيع داخل المهد. بواسطة هذا التوظيف الجيد للصوت يدفع الجمهور إلى الانتقال من وضعية لأخرى مع التأكيد على أن الأجدر بالتفكير في قضيته هو ذلك/تلك الرضيع البريء وليس المرأة التي من المفروض أن تكون مسؤولة عن نتائج أفعالها. فتحول بذلك مركز الجذب في الخشبة إلى يسار الممثلة وليس إلى يمينها حيث الصندوق/الماضي بذكرياته. لقد شكلت هذه العملية الإخراجية أجمل مفصل في العرض.. وفي عملية خلق الامتداد لذات الممثلة ومن أجل توضيح بعض المواقف لإبراز تفاعل الذات المعبر عنها بذوات أخرى غائبة؛ إن حضرت جسديا ستكسر طبيعة المونودراما، وظف المخرج الكاميرا. تم التقاط حوارات قبلية؛ حوار للأب، حوار للأم، حوار للجيران، صور للفقيه، صور لتقرير طبي.
كل هذا التعدد انصهر في الذات المفردة فحقق للمسرحية الفردية أبعادها الجمالية بإتقان وأكد أن توظيف لقطات الكاميرا يسهم في الاقتراب من ثقافة الصورة المهيمنة في عصرنا الحاضر.
كل الشكر والتقدير لمن سهر على هذا الإنجاز الفني وكل من دعمه وخصوصا وزارة الثقافة التي وفرت لساكنة آيت أورير هذا الفضاء الجميل كما وفرته لمناطق مهمشة وفقيرة لا ميزانية لها لإنجاز مثل هذا المشروع في كافة ربوع الوطن.. أشد على أياديكم.

موسى مليح
آيت أورير 24 ماي 202‪5

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button