
“ليس من قبيل الصدفة أن فكرة ميناء واسع هنا قد أشعلت خيال حكومات أجنبية كثيرة ومستثمرين أوروبيين، ونتوقع – مع استمرار طرح الفكرة – أن آخرين سيعبرون عن اهتمامهم. يمكن للتكنولوجيا الحديثة أن تجعل من ميناء غزة واحدًا من أكثر الموانئ نفعًا على ساحل البحر الأبيض المتوسط حيث تمر السلع والبضائع من بواباته إلى نقاط في إسرائيل وفلسطين والأردن والسعودية وحتى العراق. سيجلب هذا ثورة اقتصادية للمنطقة كلها، وخاصةً للسكان الفلسطينيين. وحين تتحول غزة إلى ميناء منتعش يمكنها أيضًا أن تكون نقطة التقاء لأنظمة الطرق والسكك الحديدية ومركزًا إقليميًا للصيد ومغناطيسًا للاستثمار الأجنبي”.
هذه كلمات رئيس الحكومة الإسرائيلية سابقًا، شمعون إسحاق بيرسكي (المعروف أيضًا باسم شمعون بيريس)، في كتابه “الشرق الأوسط الجديد” الصادر عام 1993. اصبر قليلًا قبل أن تقارن رؤية “أبو المفاعل النووي” الإسرائيلي بما يحدث الآن في غزة وبمخطط “الريفييرا”؛ فهذا في الواقع جزء صغير من رؤية شاملة لمنطقة الشرق الأوسط كلها كما تخيلها هذا الرجل قبل 32 عامًا.
“الهدف النهائي”، على حد تعبيره، هو “خلق مجتمع إقليمي من الأمم، بسوق مشتركة ومؤسسات مركزية منتخبة على شاكلة السوق الأوروبية”. سيؤدي هذا في رأيه إلى الاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي وحماية الأمن القومي ودمقرطة المنطقة. وفي هذا يقتبس عن الشاعر السوري نزار قباني من ديوان قصائد مغضوب عليها: “لو أن كلَّ عصفورٍ بحاجةٍ إلى تصريحٍ من وزير الداخلية ليطير، ولو أن كلَّ سمكةٍ بحاجةٍ إلى تأشيرةِ خروجٍ لتسافر لانقرضت الأسماكُ والعصافير”.
الفكرة بشكل عام قديمة قدم زعيم الصهيونية تيودور هيرتزل الذي دعا إلى قيام كومنولث عربي صهيوني لخلق مصالح اقتصادية مشتركة تمكن اليهود من النسيج العربي. بقي هذا حلمًا عزيزًا داخل النخاع العصبي الإسرائيلي تجاه جيران لا يشعرون نحوهم براحة لأسباب معروفة. حين نشر بيريس هذا الكتاب كانت القاهرة ورام الله قد مدت يدها للمصافحة وكانت عمّان على الأعتاب. حان الوقت إذًا لمرحلة أخرى نحو الحلم كما يقول: “كي ننقذ مستقبل الشرق الأوسط ونوفر الأمن لسكانه لا يكفي أن نحل الخلافات ثنائيًا أو حتى على مستوى متعدد الأطراف. ينبغي أن نبني شرق أوسط جديدًا”.
من أجل هذا، كما يقترح، “يمكننا أن نبدأ بمنطقة البحر الأحمر .. مصر والسودان وإريتريا على جانب، وإسرائيل والأردن والسعودية واليمن على الجانب الآخر”. هذه الأولوية القصوى ستشرح لك – من بين أسباب أخرى – ما حدث بعد ذلك فيما يخص تيران وصنافير المصريتين ومشروع نيوم السعودي وإدارة الاحتراب السوداني واختراق اليمن وإريتريا ومحيط مضيق باب المندب بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر من خلال وكلاء عرب.
يكيل بيريس المديح بوجه خاص للسادات ومبارك، ويولي اهتمامًا خاصًا بالمياه والزراعة. في أعقاب كامب ديفيد طفا على السطح فجأةً اقتراح – من نوع ما يدعو إليه بيريس – بشق ما سُمي “ترعة السلام” من النيل إلى الكيان، سرعان ما اختفى بعد ردة فعل قوية بين الرأي العام المصري. لكن التعاون الزراعي استمر بضغوط أمريكية وأدى إلى تحول مصر من المحاصيل الاستراتيجية إلى الكنتالوب والفراولة والخوخ، وسط اتهامات من خبراء مصريين بعملية تخريب أوسع. ولا ينسى طبعًا أن يشير إلى منابع النيل وأثيوبيا. مثلما لا ينسى أن يضيف اقتراحًا بتعاون أردني لشق قناة من البحر الأحمر إلى البحر الميت.
ينتقل بيريس في رؤيته إلى مستوى أرفع من هذا حين يقترح أن “الشرق الأوسط يمكن أن يتحول من اللون البني إلى اللون الأخضر .. بإنشاء مركز قيادة للحرب على الصحراء”، يتحكمون هم فيه بكل تأكيد بحجة أنهم يملكون التكنولوجيا اللازمة.
أما في مجال المواصلات فهو يقترح إنشاء موانئ ومطارات وسكك حديدية وطرق سريعة تساهم فيها أطراف متعددة الجنسيات وتشمل مناطق للتجارة الحرة. من بينها مثلًا إحياء سكة حديد الحجاز التي تصل المدينة المنورة وتمر عبر وادي الأردن نحو دمشق وحيفا، ووصلها بسكة الحديد التي كان أنشأها الإنغليز لربط مصر بطرابلس في ليبيا. وفقًا لتقديراته لن يستغرق إتمام مشروع كهذا اكثر من ستة أشهر.
هذه عينة من رؤيته الشاملة للقضاء على العدو المشترك الأول في رأيه، وهو الفقر، ونقل المنطقة كلها إلى أجواء من الأمن والرخاء. أما الميزانية والتمويل فلا توجد مشكلة على الإطلاق. لقد تحدث فعلًا مع المؤسسات المالية العالمية وزعماء الدول الكبرى وكل شيء جاهز.
من وجهة نظر محايدة، هذه كلها أحلام عظيمة وطريقة إيجابية في التفكير لا يختلف عليها بشر. لكن هذا ليس السؤال الحقيقي. لب الموضوع والسؤال الحقيقي يكمن في الهدف الأسمى في نهاية المطاف من وجهة نظر المشروع الصهيوني. ستفهم هذا ببساطة متناهية حين تلتفت إلى اللحظة الحاضرة كي تضع حرصهم اليائس على إتمام ما يسمونه “الاتفاقات الإبراهيمية” في سياقه الحقيقي، وعلى جر السعودية إلى حيث لا يستطيع العالم العربي كله أن يعود.
الطريف أن هذا الكتاب، بعد صدوره بالإنغليزية عام 1993، كان قد تُرجم إلى العربية ونشرته مؤسسة الأهرام. فكرت وقتها كثيرًا في هذا؛ لأن خطوة كهذه لا يمكن أن تمر دون موافقة – إن لم يكن مبادرة – من أعلى مستوى في البلد. لكن النسخة العربية زيدت عليها مقدمة قوية نسفت الرؤية من أساسها وشبهت الكتاب ببروتوكولات حكماء صهيون. لماذ إذًا سُمح – أو أُمر – بنشره أصلًا؟
تخميني أن القيادة المصرية وقتها وقعت تحت ضغط شديد فاختارت – كما هي العادة في مثل هذه المواقف – أن تحتمي بالشعب. وهذا في نهاية المطاف هو لب الموضوع والسبب الرئيس وراء الكتاب والرؤية وكل المشاريع الصهيونية. لقد نجحوا في تحييد الأنظمة العربية، وحاولوا بكل ما أوتوا من قوة النفاذ إلى عقل المواطن العربي وقلبه، وفشلوا فشلًا ذريعًا.
هذا هو الحصن الأخير الذي سيعز عليهم حتى يوم القيامة. كانوا يتمنون ولادة طبيعية لمشروع الاختراق والهيمنة، وأكبر دليل على فشلهم أنهم يعمدون الآن إلى ولادة قيصرية رغم أنف الأم.
لا يتركها الآن إلا خائن.
*إعلامي وكاتب مصري