
(كش بريس/التحرير)ـ شهد المغرب مؤخرًا تحركًا جماعيًا من قبل عشرات الهيئات والجمعيات المدنية التي وقعت على بيان مشترك يطالب بحماية حرية التعبير وضمان التعددية الإعلامية في الفضاء الرقمي. وجاء هذا التحرك في سياق ما تواجهه هذه الحقوق من تحديات، تشمل المضايقات القضائية، والتوقيفات، والمتابعات القانونية، إضافة إلى التهديدات التي يطرحها مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، والذي يثير مخاوف بشأن تراجع مكتسبات حرية التعبير في البلاد. ويُعد هذا البيان، الذي حمل توقيع حوالي مئة جمعية وهيئة مدنية، نموذجًا للتعبير الجمعي عن القلق المدني تجاه أي مساس بحرية الرأي والتعبير، مع التأكيد على الطابع الدستوري والقانوني والالتزامات الدولية للمغرب.
يشير البيان بشكل صريح إلى أن الدستور المغربي يكفل حرية الفكر والرأي والتعبير، وهو ما يجعل أي تدخل في هذه الحقوق، سواء عبر تشريعات أو ممارسات إدارية أو قضائية، مرفوضًا ومتناقضًا مع المبادئ القانونية الوطنية والمعايير الدولية، مثل المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمواد 19 و20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. ويؤكد البيان أن أي تقييد للحق في التعبير يجب أن يكون منصوصًا عليه في نص قانوني واضح، وأن يستجيب لمعايير المشروعية والضرورة والتناسب، بما يتماشى مع المقاربات القانونية الدولية حول حرية التعبير، كما نصت عليها لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في ملاحظاتها العامة رقم 34 حول حرية الرأي والتعبير في العصر الرقمي.
يعكس هذا التحرك المدني فهمًا عميقًا لحرية التعبير بوصفها شرطًا أساسيًا للحياة الديمقراطية، ومكونًا جوهريًا للتعددية الإعلامية، الذي لا يقتصر على الصحافة المهنية التقليدية بل يمتد إلى جميع الفضاءات الرقمية. ويشير البيان إلى أن الحقوق المحمية خارج الإنترنت يجب أن تحمى أيضًا على الإنترنت، معتبرًا أنه لا يجوز لأي جهة أن تمنح لنفسها صفة الوصي على الفضاء الرقمي، أو أن تحصر حرية التعبير في نطاق الصحافة المهنية وحدها، أو أن تلويح ببسط ترخيص النشر الرقمي العام يبرر التقويض. وهذا الطرح يتقاطع مع أفكار جون ستيوارت ميل حول حرية الرأي والتعبير كضمان أساسي لتقدم الفكر، وضرورة أن تكون الرقابة محدودة لتجنب إسكات الأصوات الحرة، بالإضافة إلى مقاربة هابرماس للحقل العام الرقمي بوصفه فضاء للتداول الحر للأفكار.
ويؤكد البيان أن المجلس الوطني للصحافة يظل هيئة تنظيم ذاتي للمهنة، معني بالصحفيين المهنيين ومؤسساتهم، وبالمبادئ الأخلاقية التي تحكم العمل الصحفي، وليس سلطة لترخيص النشر الرقمي العام. ويرى البيان أن أي مخالفات تمس بالنظام العام مثل التحريض على العنف أو التمييز أو العنصرية، أو خطاب الكراهية، أو التشهير، أو التضليل الإعلامي، يتم التعامل معها قانونيًا وفق الأطر التشريعية القائمة، ما يجعل من غير الضروري تحويل النقاش المهني إلى ذريعة لتقييد الفضاء الرقمي أو تكميم الأصوات.
يمثل الفضاء الرقمي امتدادًا للحقل العام، الذي يقتضي تنظيمًا ذاتيًا ومرونة في التعامل مع المحتوى دون تدخل مركزي يهدد حرية التعبير. ويعكس البيان وعيًا بالحد الفاصل بين حماية النظام العام وحماية حرية الرأي، بما يذكّر بمبادئ الكومنولث الرقمي وحرية التدفق المعلوماتي التي تضمنها المؤسسات الديمقراطية الحديثة، كما نوقشت في أعمال فلاسفة الإعلام الرقمي مثل يورغن هابرماس ومانويل كاستيلز، الذين شددوا على ضرورة حماية الحقل العام من الرقابة المفرطة لضمان تعددية الأصوات ومساءلة السلطة.
ويؤكد البيان أن الأصل هو الحق في التعبير الحر، وأنه لا يجوز لأي هيئة أو مؤسسة احتكار سلطة الترخيص العامة على الفضاء الرقمي، وأن التنظيم الذاتي للمهنة يجب أن يظل في حدوده المعقولة، بعيدًا عن أي رقابة مسبقة أو وصاية على المحتوى. ويشير هذا الطرح إلى ضرورة مراعاة التوازن بين حرية التعبير والمسؤولية، بما يتوافق مع الفلسفة الأخلاقية لحرية الرأي كما ناقشها إيمانويل كانط، الذي ربط بين الحرية والواجب الأخلاقي، وبين جون لوك الذي اعتبر حرية التعبير حقًا طبيعيًا ينبع من الكرامة الإنسانية.
كما دعت الهيئات الموقعة إلى وقف جميع أشكال التضييق أو المتابعات القضائية المتعلقة بالتعبيرات السلمية، خصوصًا تلك الصادرة عن الشباب في الفضاء العام والرقمي، وحصر مهام المجلس الوطني للصحافة في نطاقها المهني المحدد دون توسيعها لتشمل كل أشكال النشر الرقمي. ويؤكد هذا المطلب على احترام مبدأ الفصل بين السلطات، وعدم تحويل الهيئة المهنية إلى أداة رقابية على حرية التعبير، بما يتوافق مع التوصيات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو حول الإعلام الرقمي وحقوق الإنسان.
وفي السياق نفسه، طالب البيان بالاعتراف العملي بالإعلام الجمعوي كقطاع ثالث للإعلام، عبر آليات تتناسب مع طبيعته غير الربحية، بما يضمن تنوع الوسائط وتعددية الأصوات، دون المساس بحرية النشر والتعبير على الإنترنت. ويبرز هذا المطلب أهمية التعددية الإعلامية كشرط أساسي للديمقراطية، وقد تناول هذا الموضوع العديد من الفلاسفة والسياسيين المعاصرين، مثل روبرت دال ونعوم تشومسكي، الذين شددوا على ضرورة وجود وسائل إعلام بديلة ومستقلة لضمان محاسبة السلطة ومنع احتكار المعرفة.
هذه المبادرة المدنية تمثل صدىً لمقاربة شاملة لحرية التعبير في العصر الرقمي، تجمع بين الإطار القانوني المحلي والدولي، والمفهوم الفلسفي للأخلاق والحرية، إضافة إلى المقاربة المجتمعية للممارسة الإعلامية. فهي لا تنحصر في الدفاع عن حرية الصحافة المهنية فقط، بل تتعداها إلى الفضاء الرقمي بمختلف وسائطه، بما يعكس فهمًا متقدمًا للتحديات التقنية والقانونية التي تواجه المجتمعات الحديثة. كما أنها تقدم قراءة نقدية لمسار إصلاح الإعلام المهني، وتعيد التأكيد على أن حرية التعبير الرقمية ليست امتيازًا، بل حقًا دستوريًا وشرعيًا، يستلزم حماية فعالة وتطوير آليات تنظيمية تضمن عدم إساءة استخدامها أو احتكارها.
وفي الختام، يمثل هذا البيان نموذجًا للتفاعل المدني الفاعل مع التحولات القانونية والتكنولوجية في المغرب، ويؤكد على ضرورة الحفاظ على التوازن بين تنظيم الإعلام المهني وحماية الحريات الفردية في الفضاء الرقمي. وهو يضع المغرب في سياق عالمي يراعي المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، ويعزز الوعي بأهمية التعددية الإعلامية، ليس فقط كحق دستوري، بل كشرط ضروري لحياة ديمقراطية فعالة ومستدامة في عصر المعلومات والاتصال الرقمي.





