‏آخر المستجدات‏المرأة وحقوق الانسان

178 ألف قضية طلاق وتطليق في سنة واحدة: قراءة في أزمة الأسرة المغربية المعاصرة

(كش بريس/التحرير)ـ كشف التقرير السنوي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أن المجتمع المغربي يعيش تحوّلاً عميقاً في أنماط العلاقات الأسرية، حيث تجاوز عدد قضايا الطلاق والتطليق المسجلة سنة 2024 178 ألف قضية، أي بمعدل 488 حالة يومياً.

ورغم أن هذه الأرقام تبدو صادمة في ظاهرها، فإن القراءة المتأنية للتفاصيل تكشف تحولات نوعية في مفهوم الانفصال الزوجي ذاته، بين ما يُعتبر مؤشراً على هشاشة الروابط الأسرية، وما يعكس في المقابل وعياً قانونياً واجتماعياً جديداً بضرورة تدبير الخلافات بأسلوب حضاري. ويشير التقرير إلى أن قضايا التطليق تمثل ثلاثة أضعاف قضايا الطلاق، حيث بلغت 107 آلاف و681 قضية مقابل 40 ألفاً و212 قضية طلاق.

ويأتي التطليق للشقاق في مقدمة الأنواع بنسبة تفوق 97%، ما يعني أن الخلافات الزوجية لم تعد تُعالج عبر وساطات عائلية أو اجتماعية، بل تحوّلت إلى مساطر قضائية منظمة، تتيح لأحد الطرفين – وغالباً المرأة – الحق في إنهاء العلاقة متى ثبت استحالة الاستمرار.

أما في المقابل، فقد سجل التقرير أن الطلاق الاتفاقي يمثل أكثر من 96% من مجموع قضايا الطلاق، وهو مؤشر دالّ على انتقال الذهنيات نحو ثقافة التوافق والإنهاء السلمي للعلاقة الزوجية، بعيداً عن منطق الانتقام أو الإكراه. بهذا المعنى، لا تُقرأ هذه الأرقام كعلامة انهيار أخلاقي أو تفكك اجتماعي فحسب، بل كجزء من تحول اجتماعي نحو ترسيخ مبدأ الاختيار والكرامة الفردية داخل المؤسسة الأسرية.

من الناحية القانونية، يُظهر التقرير أن مرونة المساطر الإجرائية في دعاوى التطليق تجعلها أكثر جاذبية للطرف الراغب في إنهاء الزواج، خصوصاً في الشقاق الذي لا يتطلب التوصل الشخصي بالاستدعاء، بخلاف الطلاق الرجعي الذي يبقى أكثر تعقيداً من حيث الإجراءات. هذا الفارق في المساطر يجعل التطليق مساراً عملياً وواقعياً في مجتمع تتنامى فيه حالات الخلاف وعدم التواصل الزوجي، خاصة مع التحولات الاقتصادية والنفسية التي يعيشها الجيل الجديد من الأزواج.

كما أن انتشار الطلاق الاتفاقي وتزايد قضايا الشقاق يعكسان تراجع هيمنة السلطة الأبوية وتقدم الوعي بالحقوق الفردية. لكن في الآن ذاته، يضعاننا أمام سؤال جوهري: هل أصبح الانفصال خياراً سهلاً في مجتمع يعاني أصلاً من هشاشة التواصل الأسري؟ وهل يعكس هذا الواقع تحرراً قيمياً صحياً، أم تآكلاً في منظومة الصبر والتضامن الأسري التي كانت تؤطر الحياة الزوجية في الثقافة المغربية التقليدية؟

تبدو المؤسسة الزوجية في المغرب اليوم مرآة لتحولات المجتمع بأسره: من علاقات تُبنى على الواجب الاجتماعي إلى علاقات تقوم على التفاهم والاختيار الحر.

غير أن هذا التحول، رغم وجاهته، يفتقر إلى سند مؤسساتي تربوي ونفسي قادر على مواكبته. فالقانون وحده لا يكفي لاحتواء الأزمات الزوجية، كما أن “الطلاق الهادئ” لا يعوّض “العيش المتوازن”. لقد أصبح لزاماً على السياسات العمومية، كما على المجتمع المدني، إعادة التفكير في الوقاية الأسرية، لا في شكلها الوعظي، بل في بعدها الثقافي والتربوي والاقتصادي، لأن حماية الأسرة اليوم لم تعد مجرد مسألة أخلاقية، بل رهاناً استراتيجياً لاستقرار المجتمع بأسره.

إن تقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية لا يقدم أرقاماً فحسب، بل يضعنا أمام مرآة عميقة للتحولات القيمية في المغرب المعاصر. فالأسرة المغربية لم تعد تنهار في صمت، بل تنفصل بوعي قانوني. غير أن الخطر الحقيقي لا يكمن في ارتفاع نسب الطلاق، بل في غياب رؤية شاملة لثقافة ما بعد الطلاق: كيف نحمي الأطفال؟ كيف نحافظ على الروابط الإنسانية؟ وكيف نُبقي على فكرة العائلة كقيمة، حتى بعد انحلال الزواج كشكل؟

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button