
(كش بريس/ التحرير)ـ في قراءةٍ دقيقة للأرقام الواردة في تقرير النفقات الجبائية المرافق لمشروع قانون المالية لسنة 2026، يتبدّى أن الدولة ما تزال تراهن على التحفيز الضريبي كأداةٍ لتوجيه الاقتصاد وتحقيق التوازن الاجتماعي، أكثر من اعتمادها على آليات إعادة التوزيع المباشرة. فإجمالي النفقات الجبائية المقدّرة بـ 32.015 مليار درهم خلال سنة 2025، ليس مجرد رقم في ميزان المالية العمومية، بل يعكس فلسفة الدولة في بناء علاقة جديدة بين الاقتصاد والمجتمع، قوامها التوفيق بين دعم المقاولة وتحسين مستوى معيشة الأسر.
المقاولات والأسر في صدارة المستفيدين:
تكشف المعطيات أن المقاولات والأسر تهيمنان معًا على ما يقارب 91.3% من إجمالي النفقات الجبائية، بحصص تبلغ 44.8% للمقاولات و46.5% للأسر.
هذا التوزيع يؤشر إلى استمرار الدولة في اعتماد المعادلة المزدوجة: تشجيع الاستثمار والإنتاج من جهة، وتثبيت الاستقرار الاجتماعي عبر دعم القدرة الشرائية من جهة أخرى. غير أن هذا التوازن الرقمي لا يخفي السؤال الجوهري: هل يوازي الدعم الضريبي الموجه للمقاولات مردودية اقتصادية ملموسة على مستوى التشغيل والإنتاجية؟ وهل يصل الدعم المخصص للأسر فعليًا إلى الفئات التي تستحقه، أم يضيع بين ثنايا النظام الجبائي وتعقيداته؟
استقرار نسبي في الحجم وتبدّل طفيف في البنية:
مقارنة بسنة 2024 (31.493 مليار درهم)، سجلت النفقات الجبائية ارتفاعًا طفيفًا بنسبة تقارب 1.6%. لكن المثير في التحليل ليس الارتفاع الكمي، بل التحول النسبي في توزيع الحصص؛ إذ تتراجع حصة المقاولات بنقطةٍ عُشرية واحدة مقابل ارتفاع واضح في نصيب الأسر، ما يعكس ميلًا سياسيًا متدرجًا نحو تغليب البعد الاجتماعي في السياسة الضريبية.
خريطة المستفيدين القطاعيين:
تظهر التفاصيل أن القطاع الفلاحي يحافظ على مكانته كأحد ركائز الدعم، مستفيدًا من 1.882 مليار درهم (5.9%)، وهو ما يعزز الرؤية الاستراتيجية الرامية إلى حماية الأمن الغذائي وتشجيع الفلاحة المستدامة.
في المقابل، يبرز القطاع العقاري بـ 1.094 مليار درهم (3.4%)، ما يعكس استمرار الدولة في تحفيز السكن الاجتماعي رغم مؤشرات التشبع في السوق. أما المأجورون فاستفادوا من دعم جبائي قدره 4.52 مليار درهم (14.1%)، ما يعزز الطابع الاجتماعي للسياسات الضريبية، وإن ظلّ هذا الدعم محدود الأثر أمام الارتفاع المتواصل في تكاليف المعيشة.
الأهداف المعلنة: من الادخار إلى الكرامة الاجتماعية
يتوزع الدعم الجبائي حسب الأهداف الكبرى، حيث يحتل تشجيع الادخار الداخلي المرتبة الأولى بـ 6.179 مليار درهم (19.3%)، يليه دعم القدرة الشرائية بـ 5.963 مليار درهم (18.6%)، ثم تشجيع امتلاك السكن بـ 5.265 مليار درهم (16.4%).
هذه الأرقام تعكس إرادة في تحريك الدورة الاقتصادية عبر دعم الطلب الداخلي، غير أن الطابع “المالي” لهذا الدعم يظل هشًا إذا لم يُترجم إلى سياسات اجتماعية هيكلية قادرة على تقليص الفوارق وتحقيق العدالة الجبائية الفعلية.
سؤال السياسة الضريبية: بين التحفيز والمساءلة
ما يفرض نفسه اليوم هو تحليل مردودية هذه النفقات: هل ما زالت الإعفاءات الضريبية أداة ناجعة لتحقيق التنمية؟ أم تحوّلت إلى امتيازات دائمة تفتقر إلى آليات تقييم ومساءلة؟
فمن دون ربط الدعم بالنتائج الفعلية، ستظل النفقات الجبائية أقرب إلى نظام إعانات مقنّع يخدم توازنات ظرفية أكثر مما يخدم التحول الهيكلي للاقتصاد الوطني.
في المحصلة، فأرقام النفقات الجبائية تكشف عن وجهٍ مزدوجٍ للسياسة المالية المغربية: فهي من جهة تؤكد التزام الدولة بالبعد الاجتماعي ودعم الفاعلين الاقتصاديين، لكنها من جهة أخرى تطرح سؤالًا أخلاقيًا حول مدى العدالة والشفافية في توزيع هذا الدعم.
إن المعيار الحقيقي لنجاعة النفقات الجبائية لن يكون حجمها، بل قدرتها على إعادة إنتاج الثقة بين المواطن والدولة، وتحويل الدعم من امتيازٍ مالي إلى رافعة للكرامة والتنمية.