
(كش بريس/التحرير)ـ كشف المعطيات المالية لمشروع ميزانية مجلس النواب برسم سنة 2026 عن صورة دقيقة لطبيعة التدبير المالي داخل المؤسسة التشريعية، حيث تواصل نفقات التسيير استحواذها شبه الكامل على الميزانية الإجمالية، مقابل هامش محدود مخصص للاستثمار والتحديث. هذا التوزيع يطرح أكثر من سؤال حول منطق تدبير المال العام داخل البرلمان، ومدى اتساقه مع الأدوار المنتظرة منه في التشريع والمراقبة والتقييم. فعند احتساب العدد الإجمالي للنواب (395 عضواً)، تبلغ الكلفة التقديرية للنائب الواحد حوالي 1,59 مليون درهم سنوياً، تشمل التعويضات والمزايا اللوجستية ونفقات التنقل والمشاركة في المهام الوطنية والدولية. رقم دالّ على ثقل فاتورة التمثيل البرلماني في ميزانية الدولة، لكنه في الوقت نفسه يثير سؤالاً مقلقاً حول مردودية الأداء النيابي ومدى انعكاسه على جودة التشريع والرقابة والتواصل مع المواطنين.
الشق الأكبر من الميزانية (575,4 مليون درهم) يذهب إلى ما يسمى بـ “دعم المهام”، أي تغطية التعويضات وأجور الموظفين والتأمينات والمساهمات الاجتماعية. بينما رُصد لمشروع “الدبلوماسية البرلمانية” 55,6 مليون درهم، وهي نسبة لافتة بالنظر إلى غياب تقييم فعلي لمدى تأثير هذه التحركات على القضايا الوطنية ذات البعد الخارجي. أما مشروع “البرلمان الإلكتروني والتواصل” فخصص له 18,9 مليون درهم، رقم يبدو محدوداً في سياق التحول الرقمي الذي يفترض أن يكون رافعة للشفافية والانفتاح على المواطنين.
أما “العمل التشريعي والرقابي والتقييمي” فقد نال 18,6 مليون درهم فقط، وهو ما يضع المفارقة في أقصى تجلياتها: الجزء الأكثر جوهرية في وظيفة البرلمان هو الأقل تمويلاً، في حين تستأثر النفقات التشغيلية والتعويضية بالنصيب الأوفر من الموارد.
إن هيمنة منطق التسيير على حساب الاستثمار المؤسسي: استمرار توجيه الجزء الأكبر من الميزانية نحو نفقات التسيير يعكس بنية تقليدية في إدارة المؤسسة التشريعية، تركز على الحفاظ على الامتيازات أكثر من الاستثمار في الكفاءة والتأهيل التكنولوجي.
الكلفة السنوية العالية لكل نائب (1,59 مليون درهم) تفرض تساؤلاً حول معيار المحاسبة السياسية والأخلاقية لأداء النواب، في ظل ضعف المخرجات التشريعية والرقابية في ملفات استراتيجية.
ضعف ميزانية مشاريع الدعم البحثي والتقييمي يعكس غياب تصور استراتيجي لرفع جودة التشريع وتحسين الأداء الرقابي، لصالح تمويل الوظائف الإدارية والرمزية.
تحول البرلمان إلى جهاز إداري أكثر منه مؤسسة تفكير وتشريع، البنية الحالية للميزانية توحي بأن البرلمان يُدار بمنطق المرفق الإداري لا بمنطق المؤسسة الديمقراطية المنتجة للمعرفة والسياسات العمومية.
رغم الحديث عن “البرلمان الإلكتروني”، فإن الاعتمادات المخصصة لذلك تبقى رمزية، ما يجعل التحول الرقمي شعاراً أكثر منه سياسة تنفيذية.
تكشف ميزانية مجلس النواب لسنة 2026 عن مفارقة جوهرية بين التكلفة العالية للتمثيل وضعف الاستثمار في جوهر الوظيفة التشريعية. إنها صورة مصغّرة عن أزمة تدبير المال العام في مؤسسات الوساطة، حيث تغيب ثقافة التقييم والنجاعة لصالح ثقافة الامتياز والاستمرارية الشكلية.
ويبقى السؤال الجوهري مطروحاً: هل يعكس هذا التوزيع المالي إرادة حقيقية في تطوير المؤسسة التشريعية، أم أنه استمرار لسياسة الإنفاق دون مردودية في زمن يفترض أن تكون فيه الديمقراطية مرادفاً للمحاسبة والشفافية؟





