
الحكايات ذات الأصول العربية المشرقية التي حلت بشمال إفريقيا وامتزجت بمخزونها السردي لعبت دورا حاسما في إغناء الحكاية الأمازيغية وفتحها على آفاق وأجواء جديدة، خاصة وأن الحكايات العربية تشكلت في فضاءات ثقافية زاخرة بتفاعلات متنوعة بين عدة حضارات. وبالتالي فعن طريق الحكاية العربية استطاع الحكواتيون الأمازيغ الاطلاع والاستفادة من تجارب سردية أخرى، فارسية وهندية على وجه الخصوص. ولكي تفقد هذه التأثيرات غرابتها ويسهل قبولها من قبل المتلقين المحليين توجب على الحكواتيين الأمازيغ التعامل مع الشخصيات والثيمات والموتيفات المستوردة بشكل يمكنها من التأقلم مع مناخها الجديد وذلك بإخضاعها للأنماط السردية الخاصة بالحكاية المحلية.
فعندما نفحص شخصية هارون الرشيد كما تظهر في الحكاية الأمازيغية سنجد بأنها تشكلت من تفاعل هذه الأخيرة مع الحكاية العربية المشرقية المطعمة بتأثيرات فارسية وهندية. وذلك على غرار ما نجد في حكاية سجلت في منطقة القبائل بالجزائر في أواخر القرن التاسع عشر تحت عنوان “كيف أصبح هارون الرشيد صانع إسفنج”. فالخليفة العباسي يضطر إلى التخلي مؤقتا عن عرشه وذلك لأنه رأى في منامه شخصا يخبره بأنه عليه أن يجتاز لا محالة سبع سنين متوالية من المحن والاختبارات الصعبة. فيطلب من وزيره جعفر البرمكي أن ينوب عنه في إدارة البلاد ويهيم على وجهه في الأرض.
وتشاء الظروف أن يلتقي الخليفة براعࣩ فيقترح عليه أن يعطيه ملابسه الرثة والمهترئة مقابل البدلة الفاخرة التي ما زال يرتديها رغم تخليه عن الملك، ويطلب منه كذلك أن يعطيه جديا فيقوم بذبحه وسلخه ويأخذ كرشته لكي يغطي بها رأسه وذلك، حسب التفسير الذي يقدمه الحكواتي، لأنه منذ ولادته ينمو له شعر مكلل بالدر والياقوت. عندما يحط هارون الرشيد الرحال في مكة يذهب عند صانع إسفنج للعمل عنده.
ورغم الوضعية المتدنية التي يوجد فيها يتمكن هارون الرشيد من الزواج ببنت السلطان التي تختاره برميه بتفاحة وذلك لأنها سبق لها أن شاهدته من شرفتها وهو يغتسل فاكتشفت بأن “السفناج” الفقير والأقرع هو في واقع الأمر شاب على قدر كبير من الجمال. وعندما يتظاهر السلطان بالمرض ويطلب من أصهاره اجتياز المحن والمشاق لجلب الدواء له فهارون الرشيد هو الذي يقوم بهذه الأعمال بدلهم ودون علم السلطان مقابل أعضاء من جسدهم. إلا أنه في الأخير يسترجع ملكه ويُطلع السلطان على الحقيقة ويفضح الأصهار بإظهار أعضائهم المبتورة ثم يغادر مكة إلى بغداد.
يمكن اعتبار المقطع التمهيدي للحكاية على أنه الشريحة الأكثر قدما، إذ أنه يجسد النواة الهندية التي تهيكلت على أساسها الأحداث المروية. فالضبابية التي تحيط بالظروف التي يتوجب على الخليفة التخلي فيها عن عرشه لا تترك مجالا للشك في أن الحكواتي الأمازيغي، مثل ما هو الشأن بدون شك بالنسبة للحكواتي العربي المشرقي قبله، لم يتمكن من استيعاب المرجعية العقائدية الأصلية التي أمدت الحكاية بمادتها الأولى.
وذلك لأن هذه المرجعية تضرب بجذورها في أرضية ثقافية بعيدة وهي المعتقدات الهندية المرتبطة بكوكب النحس الذي بإمكانه أن يختار دون سابق إنذار وفي أي وقت أي شخص مهما علت أو تدنت مكانته لملاحقته وتحويل حياته إلى سلسلة من المحن والاختبارات مدة من الزمن قد تطول أو تقصر. بالإضافة إلى هذا فالشخص الذي يوجد في هذه الوضعية يكون “مُعديا”، ويصبح بإمكانه أن يجلب الشؤم وإلحاق الأذى دون قصد بكل من يتعامل معه عن قرب، وكل الأعمال التي يقوم بها يكون مصيرها الفشل. وهذا ما يفسر قرار هارون الرشيد الابتعاد قدر المستطاع عن ذويه وعرشه وألا يرجع إلى بغداد إلا وهو متيقن من أن كوكب النحس الذي يطارده تركه لحاله نهائيا.
من المؤكد أن الحكاية في نسختها الأصلية كانت تحمل هذا المقطع التمهيدي بكل مكوناته، إلا أنها عندما وصلت إلى المجتمع المشرقي ثم الأمازيغي في وقت لاحق لم يستسيغاه لغرابته فأقصاه وجعلا مكانه عنصرا أسهل على الفهم وهو الرؤيا التي تم من خلالها تنبيه الخليفة العباسي إلى المحنة التي قدرت له والتي لا مفر له من الخضوع لها.
والأرجح أن الفُرس الذين كانوا دائما بمثابة همزة وصل بين الثقافتين الهندية والعربية، هم الذين أدخلوا هذه الثيمة إلى الحكاية العربية. ولا أدل على ذلك من وجود حكاية فارسية وردت في مصادر عربية (ٍ ابن الفقيه الهمذاني، “كتاب البلدان”) مفادها أن الملك الساساني سابور (شاݒور) عاش تجربة مماثلة لتلك التي واجهها الخليفة العباسي.
إلا أن مجموعة من العناصر الأخرى كارتداء الخليفة لملابس الراعي الرثة وتغطية رأسه بكرشة حيوان والعمل عند صانع إسفنج وزواجه ببنت السلطان وتمارض هذا الأخير لإرغام أصهاره على اجتياز اختبارات يقوم بها هارون الرشيد بدلهم مقابل أعضاء من جسدهم وظهور الحقيقة في النهاية، تبقى إضافات محلية الهدف منها تطعيم شخصية هارون الرشيد بملامح مغاربية أمازيغية واضحة. فعدة حكايات مغربية تتضمن شخصيات تذكرنا إلى حد كبير بشخصية الخليفة العباسي.
ففي حكاية “تفاح للافاطمة بنت منصور” يتمكن البطل، الذي كان هو الآخر يعيش متنكرا، من القيام بدل خدام السلطان ومقابل أعضاء من جسدهم بالمهام التي كان عليهم القيام بها والتي تشمل المخاطرة بأرواحهم لجلب الأشياء التي يحتاجها السلطان للشفاء من الداء الذي ألم به، وفي حكاية “السلطان والأقرع” تضطر البطلة إلى الفرار والهيام على وجهها هربا من مطارديها المفتونين بجمالها الباهر وإلى تغطية رأسها بكرشة حيوان وارتداء جلباب حتى تتمكن من إخفاء هويتها الحقيقية والعمل عند صانع إسفنج تحت مظهر رجل أقرع.
ويجب التأكيد هنا على أن الحكواتي الأمازيغي يلجأ إلى تفسير ذي طابع غرائبي، أي تمييز هارون الرشيد بخاصية امتلاك شعر مكلل بالدر والياقوت، لتبرير تغطية رأسه بكرشة الجدي وذلك لأنه “نسي” الدافع الأصلي لذلك أي الرغبة في التنكر وإخفاء الهوية الحقيقية باتخاذ هيئة أقرع، والملاحظة ذاتها تصدق على حكاية “تفاح للافاطمة بنت منصور” حيث نلاحظ بأن الحكواتي “نسي” هو الآخر أن يشير إلى أن اختيار البطل معمل حدادة للاشتغال فيه يشي برغبته، على غرار هارون الرشيد، في طمس ملامحه الحقيقية على اعتبار أنها ستصبح سوداء بفعل الدخان ومن الصعب التعرف عليها. وتجدر الإشارة إلى أن شخصية الأقرع الزائف تعتبر من المكونات الأساسية للحكاية الأمازيغية. وبناء على ما سبق يتضح أن بعض الأبعاد الغرائبية التي قد تكتسبها الحكاية، كما هو الشأن بالنسبة للشعر المكلل بالدر والياقوت، ما هي في خاتمة التحليل إلا محاولات مرتجلة يقوم بها الحكواتيون لسد الثغرات التي تبقى شاغرة في بنية الحكاية بعد فقدانها لأحد عناصرها السردية.
وفيما يتعلق بالدافع الأصلي لرغبة البطل في التنكر فمن الصعوبة بمكان التفكير بأن الأمر يتعلق ببياض ناتج عن النسيان، فالتطرق إلى هذه الإشكالية يحتم علينا استحضار أطروحات فلاديمير بروب ومغادرة عالم الحكاية كنمط سردي مكتفࣲ بذاته والدخول إلى عالم الطقوس التي انمحت باندثار علاقات الإنتاج والاعتقادات المرتبطة بها التي تحولت فيما بعد لتصبح حكايات، والأمر يتعلق هنا بطقوس الشروع والتي كانت تفرض على الطفل الراغب في ولوج عالم الكبار أن يجتاز عدة اختبارات وأن يظهر بعدها للقبيلة بأنه تغير نهائيا وذلك بطمس ملامحه واكتساب هيأة أقرع بتغطية رأسه بمثانة حيوان أو بأعضاء أخرى. وجود ثيمة الأقرع الزائف في الحكاية الشعبية بهذه القوة يدفع إلى التفكير بأنها لم تتمكن بعد من قطع الحبل السري الذي يربطها بالطقوس التي انبثقت منها.
ويجدر بنا أن نشير هنا إلى حكاية أمازيغية مغربية (تارودانت) تتعلق هي الأخرى بهارون الرشيد وتبدو من الوهلة الأولى بأنها تبقى مجرد نسخة معدلة للحكاية التي نحن بصددها، وهي تروي كيف أن الخليفة العباسي يأتي متنكرا عند صانع إسفنج للعمل عنده، ويتمكن بمساعدة الأخير الذي كان في الآن نفسه ساحرا من الزواج ببنت ملك الجن. لنلاحظ كذلك بأن الحكايتين معا تتمتعان، على الرغم من وفرة مادتهما السردية وتشابكها، بحبكة في غاية الإحكام، ما يدل على أن الحكواتيين الأمازيغ نجحوا في معالجتهما على النحو الأصوب، وإن كان هذا يدل على شيء فعلى أن جمهور المتلقين تفاعل معهما بقوة.