
ـ من عبد الواحد الطالبي – مراكش ـ
لا من يختلف أن مراكش مدينة ملهمة، ولا فضل لأحد في ذلك، وهي ملهمة منذ قرون من يوم تأسيسها على سفح منبسط أخضر بواحات غناء تتراقص عروش جنانها على ثلج ذائب كاللجين يسيح من على قمم الهامات في أطلس يطل كالبلور من أفق قريبٍ بعيدٍ يأسر بالجمال الساحر النظرَ إلى الشمس تنطفئ جمرة حمراء عند شفق عليلٍ في الوادي ويسطع ضياؤها من وشاح الجبال مثل العروس التي يزفها الصحو لرذاذ الزخّ.
مراكش لم تولد من ثلاث سنوات ولا كانت من قبل ذلك في رحم امرأة. إنها ولو لم تتأسس حاضرة لكانت جغرافيتُها ذات جذب عالمي مثلما هي عليه الآن مدينة بتاريخ تليد وحضارة عريقة وجهةَ سياحةِ العالَمِين، سِحرُها كامنٌ في ذاتها هي كالذرة تتفاعل من داخلها بما حباها الله من بهجة في الأرض والإنسان.
ومهما يدعي مَنْ قَيَّضَ الله له أمرَ حكمها وتسيير شأنها، فإن شأوَ مراكش مصنوع بحكمة إلهية وبفطنة المؤسس الذي شاد وبنى، والمخطط الذي صمم وهندس منذ ألف عام ثم ما تعاقبت الأيام، حتى آلت المدينة إلى يد العبث تنزع الأوشام من على وجه زانَ مراكش سنين عددا وتركت الندوبَ شاهَتْ إثرها الحاضرة التي ما تفتأ تقاوم عمل الهمج من جماعات الفيئ وفئات الريع.
فما خفي عن ذي كل ادعاء أن مراكش موقع استراتيجي عسكري تاريخي ومجال مفتوح لصد العدوان من كل جهاتِ تَحَسُّبِ الهجوم، وأنها تصميم فريد بهندسة استحضرت بُعْدَ التخطيط عند التشييد، فجعلت بناءها واطئا لا يعلو فيحجب القمم؛ ولا ينمو فيضيق واحات النخيل وجنات الأرض؛ ولا يتكتل فتختنق الأنفاس وتَدْلَهِمُّ الأجواء….
وكان لابن تاشفين وجُنْد المرابطين ومن بعدهم الموحدين ثم السعديين فالعلويين، سبُقُ هذا الإرث الذي حافظ عليه الجنرال اليوطي بمراسيم ألزمت العمارة الحديثة الكولونيالية في عهده بالطابع الحضاري العمراني والمعماري التاريخي، فحصر علو كل بناء عند 14 مترا، وجعل اللون من لون تراب الأرض يُكسِّر وهج الضياء فلكأنما المدينة تصطبغ بشفق سمائها في المساءات الحالمة لصحراء لمّا تكن قاحلة تستقطب كل سنة ملايين السياح بجاذبية اللون والرائحة كما قالت السيدة بيدرمان عند جوابها عن سر الانجذاب من سويسرا الغرب إلى مراكش الشرق.
وظلت مراكش وفية للونها ولرائحتها عصورا وعهودا، تنشر طيبها مع الدفء لعناق الظل والحرور، واتساق الصورة والخيال، واتحاد الفصول في يوم الإشراق المغري باختزال الكون جميعا في مساحة مراكش بين سلسلة الأطلس الكبير ووادي تانسيفت تحت أفياء الحدائق الفيحاء والرياض الغناء.
ثم أتى عليها دهر لأهلها لهم فيه عليها سطوة وقسوة، اهتموا بالكلاب وأهملوا الإنسان، يتفاخرون بما لن يكون لهم بآثارهم ذِكرٌ حين يقول القوم هاذي آثارنا تدل علينا.
إن المدينة ضاقت بما رحُبت حتى اختنقت، بَهَتَ لونُها وخبا ضياؤها وازدحمتْ، ففقدت رواءها وضاعت هويتها التاريخية والحضارية؛ وجذَّرَ مشروع ” الحاضرة المتجددة” المسخ الذي امتسخت به المدينة الحمراء ورسخه في أعمال ترميم مغشوش بلا مرجعية ثقافية وبلا خلفية تاريخية…
من يجرؤ اليوم للحديث عن مراكش، حقيق به أن يكون مبحرا في السعادة الأبدية، مسافرا في اغمات عارفا بمن حل بها من الأعلام، مستبطنا الغور بما يتفاعل في المدينة من مشاعر وانفعالات للإنسان المراكشي المطبوع بالبساطة والقناعة، ومشْيِ الهوينى والكلام بالمثقال واللباس القصير…
يقول المراكشيون عن مدينتهم إن حائطها قصير، ولذلك هم يقصرون في كل شيء غير أن بعضهم صاروا يطيلون حبل الكذب وهو في أصله قصير.
لا كذب في ما يشهد الواقع بعدم صحته، وإن صح البعض من الكذب فأغلبه بهتان وزور، عن مدينة يحملها تاريخها وليس هذا الحاضر الذي تئن تحت وطأة الإهمال فيه أحياء المدينة داخل الأسوار التي عبثا أخفى طلاء “مشروع الحاضرة المتجددة” وضعية البؤس والفقر الساكنةَ فيها، ومثلها الأزقة في الأحياء الحديثة التي تعمها الفوضى ويحيط بها الإهمال المشهود في الطرقات وعلى النواصي وفوق الطوارات….
لا كذب عن أحياء المسيرة وإزيكي والمدينة العتيقة وسيدي يوسف بن علي القديم والعزوزية وأخرى، تفتقد للحدائق والفضاءات الخضراء ولمرافق تعتني بالشباب والأطفال وبالمتقاعدين والنساء ربات البيوت….
لا كذب عن نشاط مقاولات البناء التي أغرقت جبال الأطلس في مدافن الإسمنت، وشمعت رئات الأجداد التي منها كان يتنفس الأحفاد، وسدت شرايين المدينة بالعوادم في طرقات تتدافع بالحديد والمطاط، تسلل إليها كل جرثوم يصيب الجيوب بالعلة والوهن…
ولا كذب أن الكلاب في مراكش أصبحت أوفر حظا من سكان المدينة وبعضهم عجزة لا مآوي لهم، ومعوزون لا عائل لهم، ومرضى لا سرير ولا علاج، ومعطوبون وجرحى مكدسون في مستعجلات مزدحمة قاصرة، ودورٌ آيلةٌ للسقوط في محطة الانتخابات بانتظار وعود غير صادقة بالترميم وإعادة البناء….
لا كذب إلا على الأموات، ومراكش لم تمت إنما تحتضر، وقد لا تفنى حتى يبهت الذي كذب وعليه كذبه، حتى يترجل من سيارة يركبها ومن كل مطية، ويسري على قدميه يشتم ما في المدينة من ريحة ويدقق ما عليها من ألوان ويتناجى في الدروب والحواري مع السكان… وإذاك سيصدق الناسَ لأنه سيرى مراكش بعين الصدوق لا من تقارير مزورة؛ وليس من خلف زجاج نافذة سيارة مكيفة مقعدها وتير تمرق من شارع كبير يحمل إسم شخصية مغربية عظيمة.