‏آخر المستجداتلحظة تفكير

أحـمـد الـشَّـهـاوي: قُدرةُ البشر تعجَزُ عن عبارتِه

كشفَ عن ذاته في مواقفِه ومُخاطباته . ولم يكشف عن حياته ؛ فكانت صُورته قابلةً لكل تجلٍّ ومُعاينةٍ بعد معاناةٍ .

فلا أحدَ يعرفُ الكثيرَ عن حياته ، إذْ عاش معتزلا بعيدًا عن الناس ، مُستترًا مخفيًّا ، كثيرَ السَّفر والتجوال والسياحة في الأرض ، مُكتفيًا برؤى الرُّوح ، ونظر القلب ، كأنه قد حُظِر عليه الكشفُ ، وإذاعة السِّر ، فهو غير مأذُونٍ له بهتك شطحِهِ ، ونشر تجلِّيه بين الناس : ” لا إذن لك ، ثم لا إذن لك ، ثم سبعين مرَّة لا إذن لك ، أن تصفَ كيف تراني ، ولا كيف تدخلُ إلى خِزانتي ، ولا كيف تأخذُ منها خواتمي ، ولا كيف تقتبسُ من الحرفِ حرفًا بعزَّة جبرُوتي ” . وقد سار في اتجاهه كل بطريقته : أبو مدين الغوث وعمر بن الفارض وابن عطاء الله السكندري .

وكان كلما ضاقَ ذهبَ إلى أهل المعرفة والعلم والتزم الصَّبرَ ، وإن كانت المعرفةُ لديه أرقى ، وأعلى رتبةً من العلم .

هو الكبير لكنَّ اسمَه لم ينتشر ، ولم يتحقَّق لإرثه الذُّيوع ، رغم فرادته وخُصوصيته وانتهاجه طريقًا خاصًّا شكلًا ومُحتوىً ، ولعلَّ عفيف الدين التلمساني (610 – 690 هـجرية / 1213 – 1291ميلادية ) الذي شرح مواقفه ، هو الأول بين الناس الذي نبَّه إلى فرادَة النفَّري ، الذي يوغلُ في الباطن ، مُستخدمًا أسلوبًا جديدًا لم يألفه الناس قبله ، ولذا اتهم بالغمُوض والاستغلاق : ” … ما رأيتُ في مكتُوبٍ ، ولا سمعتُ في مسمُوعٍ منذ أكرمني الله تعالى بالانتماء إلى هذه الطائفة ، أفصح عبارة عن التجليات الجزئية ، من لفظ هذه التنزُّلات – المواقف – ، والأول على حقيقة التعرُّف ، وإني أعتقد أنَّ قدرة البشر تعجزُ عن هذه العبارة ، وأنَّ هذه لقوة إلهية “.

إنه محمد بن عبد الجبار النفري ، الذي مات بمصر سنة 354 هجرية ، ولقِّبَ بالأسكندري ، والمصري ، الذي دومًا ما يُوجِّه نظره نحو باطنه ليتأمَّلَ : ( ما أنا في شيء ، ولا خالطتُ شيئًا ، ولا حللتُ في شيءٍ ، ولا أنا في شيءٍ ، ولا من ، ولا عن ، ولا كيف ، ولا ما لاينقال ، أنا أنا ، … ) .

النفري صاحبُ خيالٍ شاطح جامح ، لكنهُ خالٍ من التعمُّد والتصنُّع والتكلُّف ، يكتبُ كأنَّ الماء يجري في يده وهو يخط أو وهو يُمْلِي .

وقد قرأتُ النفري – الذي عاش في النصف الأول من القرن الرابع الهجري – مرَّاتٍ كثيرةً ، ولديَّ كل الطبعات التي صدرتْ له أو عنه ، ومع ذلك في كل مرة أقرأ أراني كأنَّني أبدأ من جديدٍ ، وأخرجُ بانطباعاتٍ ونتائج مُغايرةٍ لما هو عندي .

” الله يعلم بجليَّة أمرِه ” هذه الجُملة الملتبسة والمُحيِّرة ذكرها عفيف الدين التلمساني الذي لم يكُن يحب لأحدٍ أن يكشفَ من يكون ، لقد كان سائرًا في طريقِ القوم الصُوفيِّ ، يكتب إشاراته من دُون ترتيبٍ أو اهتمامٍ ؛ لأنه لم يكُن معنيًّا بالخلود أو بترك أثرٍ له ، يذكر التلمساني : ” إنَّ الذي ألَّف هذه المواقف هو ولد ولد الشيخ النفَّري رحمه الله ، وليس هو الشيخ نفسه ، إذا كان الشَّيخ لم يؤلف كتابًا ، إنما كان يكتبُ هذه التنزُّلات في جُزازات أوراق نُقلت بعده ، فإنه كان مُولهًا لا يقيمُ بأرضٍ ، ولا يتعرَّضُ لأحدٍ ، … ، وإنَّ الذي ألَّف هذه المواقف لم يكُن هو النفَّري ، بل هو بعض أصحابه ، وقبل هو ابن بنته ” . والتأليف هنا معناه الترتيب الذي وصلَ إلينا .

يقول الأب بولس نويا اليسوعيّ ( 1925 – 1980 ميلادية ” صاحب كتابيْ ” نصُوص صوفية غير منشورة ” ، و” التأويل القرآني واللغة الصوفية ” : إنَّ النفَّري كان ” يسجِّل في كراسةٍ أو دفترٍ حصيلة كل رؤية ، بعض هذه الكراسات دُوِّن في فترة وجوده بمصر ، والبعض الآخر بالبصرة ، والثالث بالمدائن ( عاصمة ملك فارس ، وكانت مسكن الملوك من الأكاسرة الساسانية وغيرهم ، وسمَّاها العرب المدائن لأنها تتكوَّن من سبع مدائن ، وبينها وبين بغداد خمسةٌ وعشرون ميلا ، وبها إيوان كسرى ، وهو قصرٌ من قُصور كِسرى أنوشروان الذي تهدَّم وبقيت آثاره في مدينة المدائن ) ، أعيدُ نسخُ هذه الكراسات كيفما اتفق ، دُون اهتمام بالترتيب الزمني لتأليفها ” .

وإن كان النفَّري قد ألهم شعراء عرب كثيرين ، فقد ألهم الكثيرين من القدماء كان في مقدمتهم ابن قضيب البان ( 971 – 1040 هجرية ) الذي كتب ” المواقف الإلهية ” على وتيرة ” المواقف ” للنفَّري ، وقلَّد أيضًا ابن العربي حيث كتب ” الفتوحات المدنية ” والتي ألَّفها على وتيرة “الفتوحات المكية ” ، وكتب شعرًا تائيةً على وتيرة ” التائية الكُبرى ” لعمر بن الفارض . وأذكرُ هنا أنَّ ابنه الشَّاعر الشَّاب الظَّريف (661 – 688 هـجرية /1263 – 1289ميلادية ) الذي وُلد بمصر ، وعاش في دمشق ؛ حيث وُلي أبوه عمالة الخِزانة بها ، والذي مات في السابعة والعشرين من عمره كان أشعرَ من أبيه .

سلَك النفَّري رياضاتٍ ومُجاهداتٍ رُوحيةً مُتواصلةً بالوهْب لا بالكسْب ، بدت في سلوكه وطقوسه في الحياة سعيًا إلى الذهاب في رحلته نحو الله ، إذْ كان حبُّه مُنزَّهًا عن أيِّ غرضٍ أو هدفٍ ، حيث كان شريفَ المقصد عفيفَهُ : ” وقال لي : اخرج إلى البرية الفارغة ، واقعد وحدك حتى أراك ، فإني إذا رأيتك ، عرجت بك من الأرض إلى السماء ، ولم أحتجب عنك”.

ولذلك وصل إلى ” أعلى درجات الفناء ” ، حيثُ جاز الكون ، يقول النفَّري في ” المواقف ” : ” وقال لي : إذا خرجت عن الحرف خرجت عن الأسماء ، وإذا خرجت عن الأسماء خرجت عن المُسمَّيات ، وإذا خرجت عن المسمَّيات خرجت عن كل ما بدا ، وإذا خرجت عن كل ما بدا قلت فسمعت ودعوت فأجبت ” .

النفَّري الذي شغل الدنيا ، ووقف أمام حرْفِهِ كبار الصوفية كان مُقلًّا ، ولم يترك الكثير من المصنَّفات ، لكنَّ قليله الذي بدأ العالم يعرفه منذ سنة 1934 ميلادية على يديْ المستشرق الإنجليزي آرثر آربري قد لفت انتباه أهل الحَرْف والكتابة ، وإن كان النفَّري موجودًا في المتنِ الصوفيِّ ومُشار إليه من الكبار ( وكان محي الدين بن العربي أول من أشار إلى – المواقف – في كتابه الأساسي ” الفتوحات المكية ” ، وأول من شرَحَها هو عفيف الدين التلمساني سنة 690 هجرية ” ) ، فإنَّ الكسلَ العربي الأكاديمي مارس مهامه في التأسِّي والتبعية ، وترك للآخر المستشرق أن يقدِّمه لنا ، ومثل النفَّري الكثير ، وعلى رأسهم الحلاج الذي قدَّمه لنا المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون .

” المواقف والمخاطبات ” كتابٌ لا نظيرَ له في التراث الصُّوفي جوهرًا وشكلًا ، غير مسبوقٍ في اللغة العربية .

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button