
نظرية التبادل الحر نظرية كولونيالية، قديمة، تعود إلى القرن الثامن عشر. صاغها بعض الاقتصاديين لفائدة الدول الرأسمالية المتقدمة، الغربية في المجمل، يوم صارت دولاً صناعية تنتج مواد تحويلية تستدعي مواد خام توجد بوفرة في ما كان يسمى، ازدراءً، “العالم الثالث” (إفريقيا خصوصاً).
كان للقوة، والعنف، والنهب، والسلب، دوراً، لم يَعُد يُنْكِرُه أحد، في سياقات “النمو غير المتكافئ” المؤسس لشروط “التبادل غير المتكافئ”. شروطٌ عنوانُها الهيمنة المطلقة، الاقتصادية والسياسية والثقافية (بريطانيا ثم الولايات المتحدة الأمريكية لاحقاً)، والتحكُّم المطلق، المباشر وغير المباشر، في ثروات وقدرات الدول الخاضعة، المغلوبة على أمرها، تُسْتَغَل عُنْوةً، بل تُسْتَنْزَف بلا حدود.
بعد الاستحكام سيبدأ الغرب في الترويج ل “المنافع المشتركة” التي تعود على الجميع من “التجارة العذبة” (مونتسكيو). كذبة اقتصادية، وخدعة سياسية تكشفها الأرقام : معدلات التبادل الحر عرفت في المدة الطويلة تدهوراً متواصلاً لصالح الدول الصناعية على حساب الدول النامية التي استكانت لأُزْعومة “المزايا المقارنة” التي يمكن جنْيُها من التخصص في تصدير المنتجات الأولية (بأسعار متدنية) مقابل استيراد المنتجات المصنعة (بأسعار مرتفعة باطراد). لم تنفع كل الكتابات الاقتصادية المنتقدة للقاعدة الفاسدة للتبادل الحر، والمُفَكِّكَة لقوانينها غير المتوازنة، والمُجْحِفة في تعديل المعادلة الخاطئة. خطاب التبادل الحر سوف يتحول، بين عشية وضحاها، إلى عكسه تماماً، وينقلب، رأساً على عقب، إلى خطاب يُروِّج لنظرية “الحمائية” الاقتصادية، عندما انقلب الميزان التجاري الأمريكي، وانتقل من فائض إلى عجز. ترامب هو من اضطرّ، تحت تأثير الأزمة، إلى الإفصاح عن الميثولوجية الاقتصادية التي سادت، واجترعها العالم، لأزيد من قرنين.
في مقال نشر في جريدة “لوموند” (١٥ يوليوز ٢٠٢٥) تحت عنوان “قرنان من التبادل العالمي غير المتكافئ”، كتب الاقتصادي طوما بيكيتي أن « على أوروبا أن تخرج من وضعية التبعية للولايات المتحدة الأمريكية وتتحالف مع الديمقراطيات الإفريقية في الجنوب لإعادة تأسيس نظام تجاري ومالي في خدمة نموذج آخر للتنمية “.
خروج أوروبا من “وضعية التبعية “، “التحالف الأوروبي -الإفريقي” لمواجهة الهيمنة الأمريكية، مفردات غير مسبوقة تكشف عن وعي اقتصادي جديد بأن الغَرْب بات غرْبين على الأقل، غرباً أوروبياً تابعاً، خاضعاً، خانعاً، وغرباً أمريكياً متبوعاً، مُتَسيِّداً، ومُتجبِّراً. السيد بيكيتي على حق، لكنه حق منقوص. ما خَصَمه من الحساب، وغفل عنه في التحليل هو أن أوروبا، التي يريد منها أن تنتفض، على ظهر أفريقيا، ليست تختلف عن أمريكا في شيئ من حيث الطبيعة الجينية، إذ إنَّهُم كلُّهم في الاستعمار غرْبٌ.