
ـ كتب: عبده حقي ـ
تُعدّ ثورة 20 غشت 1953 واحدة من أهم اللحظات المؤسسة في التاريخ السياسي الحديث للمغرب، باعتبارها لحظة انصهار فعلي بين الإرادة الشعبية والشرعية الملكية في مواجهة الاستعمار الفرنسي. لقد تجاوزت مجرد رد فعل على قرار استعماري، لتصبح نقطةً حاسمة في مسار بناء الدولة الوطنية ومشروعها التحرّري.
مع نفي الملك محمد الخامس في 20 غشت 1953، تصاعدت التعبئة الشعبية بشكل غير مسبوق. فالاستعمار لم يستهدف شخص الملك فقط، إنما حاول كسر الرمز الذي كان يجسد وحدة الأمة وعمقها التاريخي والديني. وهنا تحوّلت المقاومة من تحركات سياسية محدودة إلى ثورة جماهيرية شاملة جمعت علماء المدن، زعماء القبائل، الطلبة، الحرفيين، التجار، وحتى الفئات الفقيرة في الأحياء الشعبية.
أدرك المغاربة، حينها، أن الدفاع عن الملك لم يعد مجرد موقف ولائي، بل أصبح جزءًا من معركة أوسع من أجل تقرير المصير واستعادة السيادة الكاملة. فقد ارتبط محمد الخامس في الوجدان الجمعي بالمشروع الوطني والتحرري منذ تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، ولذلك اعتُبر نفيه محاولة لإجهاض هذا الطموح الجماعي وإعادة فرض الوصاية الاستعمارية بقوة الأمر الواقع.
من الناحية السياسية، ساهمت ثورة الملك والشعب في تسريع انتقال العمل الوطني من أشكاله النخبوية والحزبية إلى أشكال تنظيمية جديدة، تقوم على التنسيق بين القيادات الوطنية والمقاومة المسلحة في مختلف مناطق البلاد. وقد ساعد هذا التحول، في ما بعد، على بناء رأي عام وطني واسع داعم للشرعية، ورافض لكل أشكال المساومة مع سلطات الحماية. وتجسّد ذلك في اتساع رقعة العمليات الفدائية، وتنظيم الإضرابات، ومقاطعة المؤسسات التي أنشأتها السلطات الاستعمارية لمحاولة طمس شرعية العرش المغربي.
كما شكلت هذه المرحلة، وبشكل واضح، بداية ظهور مفهوم “العقد السياسي الجديد” بين العرش والشعب: عقد يقوم على التضامن المتبادل في مواجهة القوى الخارجية، وعلى بناء دولة حديثة تستمد شرعيتها من انخراط المجتمع ومشاركته في صناعة القرار. ولهذا السبب ظلّ 20 غشت، بعد الاستقلال، مناسبة وطنية رمزية تُستعاد فيها تلك اللحظة التاريخية التي التقت فيها إرادة الحاكم والمحكوم في سبيل الوطن.
على المستوى الدولي، أربك نفي محمد الخامس موقع فرنسا داخل المجتمع الدولي، خصوصًا بعد أن نددت به قوى سياسية وبرلمانية أوروبية اعتبرته مسًّا بمبدأ الشرعية وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها. وقد أدركت فرنسا لاحقًا أن رهانها على إنشاء “ملكية بديلة” باء بالفشل، بعد أن رفضها الشعب المغربي بشدة، واعتبر تنصيب محمد بن عرفة مجرّد محاولة لضرب وحدة البلاد واستغلال الانقسام.
وبمجرد عودة محمد الخامس من المنفى في 16 نوفمبر 1955، أصبحت ثورة الملك والشعب حدثًا مؤسسًا، تُبنى عليه الذاكرة الوطنية والسياسية، لأنه مثّل لحظة تلاحم استثنائية لا تُختزل فقط في مجرد الانتفاض على الاحتلال، وإنما في إنتاج معنى جديد للمواطنة وللشرعية السياسية المبنية على التوافق التاريخي بين الدولة والمجتمع.
إنّ استحضار ذكرى 20 غشت اليوم لا يجب أن يكون مجرد احتفالٍ رمزيّ في الروزنامة الوطنية، بل استعادةً لتلك القيم التي صنعت ذلك الحدث: التضحية، المسؤولية الجماعية، وحدة الصف، والارتباط بالمشروع الوطني في أبعاده التاريخية والمستقبلية. ففي عالم تتكاثر فيه التحديات والضغوط الجيوسياسية، تظلّ ثورة الملك والشعب نموذجًا في كيفية تحويل الأزمة إلى لحظة تأسيس، وتحويل الرفض الشعبي إلى قوة تغيير إيجابية.
بالطبع، سأضيف فقرة ختامية تعكس هذه الاستمرارية في مسار ثورة الملك والشعب:
وتُذكّرنا هذه الذكرى، في بُعدها المستقبلي، بأن ثورة الملك والشعب لم تتوقف عند عودة محمد الخامس، بل امتدت في الزمن كطاقة تاريخية حيّة تتجدد مع كل جيل. فهي اليوم تواصل مسارها مع الملك محمد السادس، من خلال الدفاع عن الوحدة الترابية واسترجاع ما تبقّى من المناطق المحتلة من طرف إسبانيا، وفي نفس الوقت استكمال بناء مؤسسات ديموقراطية حديثة قائمة على سيادة القانون والمشاركة المواطِنة. وعلى المستوى الداخلي، اتخذت هذه الثورة طابعًا إصلاحيًا هادئًا عبر المصالحة مع الذاكرة الوطنية، والانتصار لضحايا الانتهاكات، وإطلاق نموذج تنموي قائم على الاقتصاد الاجتماعي والتصنيع واستثمار الذكاء الوطني. وهكذا تتحول روح 20 غشت من حدث تاريخي إلى مشروع مستدام يربط بين الماضي التحرري والحاضر الإصلاحي والمستقبل التنموي، في استمرار حي التحالف الدائم بين الملك والشعب.