‏آخر المستجداتفنون وثقافة

” منارات ” يكتبها د مالك منصور: القصة الروحانية والعبرة من أصحاب الكهف

ـ من منظورٍ عقلي، علمي، روحاني، ظاهري وباطني كامل ـ

في الظاهر كانوا فتيةً صغاراً، قلوبهم ثابتة، وإيمانهم صادق. كان الزمان غارقاً في الظلمات — كل مكانٍ عبادة للأصنام، وكل لسانٍ يترنّم بأناشيد الشرك. وكان الملك دَقيانوس قد أمر أن لا يُذكَر الله، بل لا يُسجَد إلا للأحجار.

لكن هؤلاء الفتية قاموا وقالوا:
«ربُّنا هو خالق السماوات والأرض، لن نركع لغيره أبداً!»

فكان إعلانهم شعلةً زلزلت قصور الظالمين. ثم خرجت هذه القلوب الشجاعة من ضجيج الدنيا، وانطلقوا نحو كهف، ومعهم كلبهم حتى بلغوا الكهف، وهناك رقدوا وناموا.

سرّ الكهف

في الظاهر الكهف فجوة صخرية،
ولكن في الباطن كان أعماق قلب غارق في ذكر الله.
• هو ملجأ من عواصف الدنيا.
• فيه لا خوف بل ذكر.
• فيه يفنى النفس وتبقى الروح بالحياة الحقيقية.

قال مولانا الرومي:
«أيها السالك! إن ضقت من أصنام الدنيا، فادخل كهف قلبك. هناك نومٌ بنور الله، وهناك الزمن يتوقف من أجلك.»

بحر النوم

نومهم ثلاثمائة وتسع سنين لم يكن نوماً عادياً؛ بل كان نوم الفناء في الله، الذي تحوّل إلى البقاء بالله. ولقد شرَّف الله قصتهم فجعلها زينةً في القرآن، وسمّى سورةً كاملةً باسمهم: سورة الكهف. وجعل النبي ﷺ تلاوتها يوم الجمعة سُنّة.
• جرى الزمان ولكنهم لم يكونوا أسرى له.
• طلعت الشمس وغربت، ومضت القرون — ولكن عندهم اللحظة بقيت لحظة واحدة.

وهذا النوم يكشف السر:
• أن زمن الدنيا فانٍ.
• وفي قرب الله يزول وجود الزمن.

قال ابن عربي:
«نوم أصحاب الكهف فناء السالك، ويقظتهم بقاء السالك.»
نور اليقظة

لما استيقظوا قال بعضهم لبعض:
«كم لبثتم؟»
قالوا: «لبثنا يوماً أو بعض يوم.»

انظر! نوم القرون أمام نور الله ليس إلا لحظة. وهذا هو السر الذي يُكشف يوم القيامة — حين تُبعث القبور ويقول أهلها: «ما لبثنا غير ساعة!»

الجوع والمعرفة

حين استيقظوا وجدوا الجوع. فأرسلوا صاحبهم بالدرهم القديم ليشتري طعاماً من المدينة.
لكن الجوع لم يكن جوع البطن فقط، بل جوع المعرفة أيضاً.
• إذا دخل الإنسان من الفناء إلى البقاء، أول طلب القلب «الرزق الروحاني».
• فجوعهم في الحقيقة عطش الإيمان.

قال مولانا الرومي:
«أيها المسافر بالقلب! إن أصابك الجوع، فاعلم أنه جوع المعرفة. الرزق الحلال يقوّي الجسد، وذكر الله يروي الروح.»

الكلب — بركة الصحبة

كان معهم كلبٌ أيضاً، جلس على باب الكهف. وهذه صورة تحمل سراً:
• لقد أظهر الله أن حتى الحيوان لا يُحرم من الرحمة في صحبة المخلصين.
• قال العارفون: «إن لم تكن وليّاً فكن كلباً عند باب الأولياء، الزم صحبتهم، فيشملك الله برحمته.»

كشف المدينة

حين دخل صاحبهم المدينة وقدّم الدراهم القديمة تعجب الناس:
• كانت الدراهم من قرون مضت.
• ثيابه ولسانه غريب.
• فمضى الناس مسرعين معه إلى الكهف.

ولكن الله بحكمته أغلق باب الكهف. فقال الناس:
«لنبنِ عليهم مسجداً.»
فأصبحت ذكرى أصحاب الكهف سبباً للذكر والعبادة.
سرّ العدد

قال بعضهم: ثلاثة ورابعهم كلبهم. وقال آخرون: خمسة وسادسهم كلبهم. وقال آخرون: سبعة وثامنهم كلبهم.

لكن القرآن قال:
﴿قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾ (الكهف: 22).

فالإشارة أن جوهر الإيمان ليس في العدد بل في الإخلاص.
الإشارات الروحانية
• الكهف = سكون القلب
• النوم = الفناء في الله
• اليقظة = البقاء بالله
• الجوع = عطش المعرفة
• الكلب = معنى صحبة الصالحين
• المسجد = بقاء الذكر
• العدد = حكمة الغيب

أقوال العلماء والعارفين
• الغزالي: «هذه القصة تصوير لمنازل الفناء والبقاء عند المؤمنين.»
• عبد القادر الجيلاني: «على السالك أن يختبئ في كهف القلب كما فعل أصحاب الكهف.»
• الرومي: «ناموا، ولكن في الحقيقة كانوا مستيقظين؛ كان نومهم نشوة المعرفة.»
• ابن عربي: «هذه القصة مثالٌ لسفر السالكين الروحاني: رياضة، فناء، بقاء ومعرفة.»

الكلمات الختامية

تُذكّرنا قصة أصحاب الكهف أن حصن الإيمان لا يقوم بالقوة الدنيوية، بل برحمة الله.
• إن أحاطك الزمان فادخل كهف قلبك.
• إن عصفت بك الفتن فالزم القرآن.
• إن جاع قلبك فاطلب رزق المعرفة.

تذكّر! اجعل الإيمان بالله هدف حياتك وأساسها. اتبع سُنّة محمد ﷺ، واستفد من صحبة أهل الله.

فإذا كان كلبٌ في صحبة الصالحين قد نال العزّة عند الله، فكيف بحال مؤمنٍ قلبه منور بالقرآن، تابع للنبي ﷺ، وملازم لأهل الله؟

اجعل تلاوة سورة الكهف عادة كل جمعة. ففي الحديث: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له نورٌ ما بين الجمعتين، يبلغ نوره الكعبة.»

وحافظ على أوائل السورة وعشر آياتها الأخيرة لتحصين نفسك من فتنة الدجال. فمن حفظها أو تلاها كان في حفظ الله.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button