
(كش بريس/التحرير)ـ وضعت الهيئة الوطنية لحماية المال العام والشفافية بالمغرب النيابة العامة أمام معطيات جديدة تكشف حجم الخلل الذي يعتري تدبير مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بعمالة الجديدة بجهة الدار البيضاء سطات، وهي معطيات تثير أسئلة عميقة حول آليات الحكامة والرقابة المفترضة في واحد من أهم البرامج التنموية التي رُوّج لها باعتبارها رافعة للتنمية المحلية وتقليص الفوارق الاجتماعية.
الهيئة الحقوقية لم تكتف بإطلاق اتهامات عامة، بل استندت إلى تقارير رسمية صادرة عن مفتشية وزارة الداخلية، أبرزت وجود شبهة تبديد أموال عمومية، وتضارب مصالح، واستغلال مواقع المسؤولية لتوجيه الدعم إلى جمعيات بعينها. الأخطر من ذلك أن بعض المشاريع التي استفادت من ملايين الدراهم لم تكن أصلاً مؤهلة للتمويل، بل لم تُعرض حتى على اللجان المختصة، ما يعكس ضعفاً مؤسسياً في آليات الانتقاء والمصادقة.
كما أن الفجوة الصارخة بين حجم الاعتمادات المرصودة (أزيد من 522 مليون درهم بين 2019 و2022) وحجم النفقات المنفذة (أقل من 270 مليون درهم)، تفتح الباب أمام فرضيتين متناقضتين: إما عجز في القدرة على التنفيذ والتدبير، أو وجود شبكات محلية تستنزف الأموال عبر التلاعب بالفواتير وتقارير صورية لمكاتب دراسات، وهو ما يضعف مصداقية المشروع برمته.
وتكشف الشكاية، التي توصلنا بنظير منها، عن نمط ممنهج من الاختلالات: احتكار مكتب دراسات واحد لجميع الملفات، تكليف مباشر لجمعيات دون المرور بمسطرة طلب العروض، ثم بروز مشاريع “وهمية” لا تتجاوز الورق. وهي ممارسات تعكس، ليس فقط فساداً مالياً محتملاً، بل خللاً بنيوياً في فلسفة المبادرة الوطنية نفسها التي يفترض أن تقوم على المشاركة والشفافية والتنافسية.
كما تكشف هذه القضية أن المبادرة الوطنية، رغم ما حظيت به من موارد مالية ضخمة ودعم سياسي قوي، لم تستطع الإفلات من منطق الزبونية والمحسوبية الذي يطبع الكثير من البرامج العمومية. بل إن ما يفترض أن يكون نموذجاً للتنمية المحلية تحوّل، في بعض جوانبه، إلى قناة لتمويل جمعيات دون محاسبة أو تقييم حقيقي للأثر الاجتماعي.
إن مطالبة الهيئة الحقوقية بفتح تحقيق قضائي ليست مجرد إجراء قانوني، بل هي نداء لإعادة النظر في بنية الحكامة الترابية، وتفعيل آليات المحاسبة والتتبع التي من دونها ستظل مبالغ بمئات الملايين عرضة للضياع، فيما تبقى الفئات المستهدفة من المبادرة محرومة من ثمارها.