
(كش بريس/خاص)ـ
في خطوة وُصفت بأنها الأخطر على نظام الهجرة الشرعية منذ عقود، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أمس، قرارًا تنفيذيًا يفرض رسوماً سنوية قدرها 100 ألف دولار على تأشيرة العمل الشهيرة H-1B، المخصصة لجذب أصحاب الكفاءات العالية من علماء وأطباء ومهندسين وباحثين من مختلف أنحاء العالم. هذا القرار لا يقتصر على كونه رفعًا باهظًا للرسوم فحسب، بل يمثل تحولًا جذريًا في فلسفة الهجرة الأمريكية التي لطالما اعتبرت استقطاب العقول المتميزة ركيزة من ركائز تفوقها العلمي والتكنولوجي.
من «دجاجة تبيض ذهبًا» إلى عبء مالي خانق
على مدى نصف قرن، كانت تأشيرة H-1B بمثابة محرّك صامت للابتكار؛ إذ ساهمت في استقطاب أفضل العقول التي أسست شركات عملاقة مثل غوغل وتيسلا، وأغنت البحث العلمي في الطب والفضاء والتقنيات الدقيقة. تقارير وزارة التجارة الأمريكية كانت تؤكد مرارًا أن هذه التأشيرة ضخت مليارات الدولارات في الاقتصاد عبر استثمارات مباشرة وضرائب ورواتب عالية. فرض رسوم تعادل 100 ألف دولار سنويًا يعني عمليًا إقصاء آلاف المواهب التي لا تستطيع مؤسساتها أو الجامعات تمويل هذا العبء، ما يهدد قطاعات التكنولوجيا والبحث العلمي التي تواجه أصلًا نقصًا في الكفاءات المحلية.
خلفيات القرار: بين القومية الاقتصادية والشعبوية
يأتي هذا القرار امتدادًا لنهج ترامب القائم على شعار أمريكا أولاً، والذي يعتبر أن الهجرة –حتى الماهرة منها– تُزاحم العمال الأمريكيين وتضغط على الأجور. لكن المنتقدين يرون فيه قصر نظر اقتصادي؛ فدراسات «معهد بروكينغز» و«مركز بيو» أظهرت أن حاملي H-1B يساهمون في خلق فرص عمل للأمريكيين بدلًا من سلبها، عبر تأسيس شركات ناشئة وتوسيع قطاعات البحث والتطوير.
سياسيًا، يسعى ترامب إلى كسب أصوات القاعدة الشعبوية التي تربط البطالة والهجرة، بينما يغفل أن الشركات الأمريكية نفسها، بما فيها وادي السيليكون، هي أكبر المستفيدين من تدفق العقول المهاجرة.
التداعيات المحتملة: اقتصاد المعرفة في مهب الريح
- تراجع الابتكار: الجامعات والمختبرات البحثية ستجد صعوبة في استقطاب علماء ومهندسين، ما ينعكس سلبًا على براءات الاختراع ووتيرة التطور العلمي.
- نزوح المواهب: دول مثل كندا وألمانيا وأستراليا، التي تقدم برامج هجرة مرنة للكفاءات، ستصبح الوجهة المفضلة، وهو ما يعني تحويل مسار العقول من الولايات المتحدة إلى منافسين مباشرين.
- ارتدادات سياسية ودبلوماسية: قد تتوتر علاقات واشنطن مع دول مصدّرة للمواهب، خصوصًا الهند والصين، حيث تشكّل هذه التأشيرة ركيزة لتبادل الخبرات الأكاديمية والتكنولوجية.
قراءة نقدية: إعادة تعريف الحلم الأمريكي
القرار يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل «الحلم الأمريكي». فهل تتحول الولايات المتحدة من أرض الفرص المفتوحة إلى قلعة مغلقة تحمي سوق العمل على حساب التفوق العلمي؟ يبدو أن ترامب لا يكتفي بمراجعة سياسات الهجرة، بل يعيد صياغة هوية البلاد كدولة جاذبة للعقول.
المفارقة أن التاريخ الأمريكي نفسه بُني على استقطاب المهاجرين الموهوبين؛ من علماء مشروع مانهاتن في الأربعينيات، إلى روّاد التكنولوجيا في وادي السيليكون. إضعاف هذا المسار قد يخلق فراغًا معرفيًا يصعب تعويضه حتى لو تغيّرت الإدارات المقبلة.
قد يرى مؤيدو ترامب في القرار استعادة للسيادة الاقتصادية، لكن قراءة أعمق تكشف أنه رهان قصير الأمد يهدد بتقويض أهم مزايا الولايات المتحدة: قدرتها على أن تكون قبلة العقول الحرة. وإذا كان القرن العشرون قد شهد صعود أمريكا بفضل هجرتها الذكية، فإن القرن الحادي والعشرين قد يسجّل بداية انحدارها إذا ما أُغلِق الباب أمام من يصنعون المستقبل.
بتوقيعه هذا القرار، يكتب ترامب –ربما دون أن يدرك– سطرًا حاسمًا في مسار «أمريكا كقوة ابتكار»، سطرًا قد يقرأه المؤرخون يومًا كبداية مرحلة أفول لا تقل خطورة عن أي أزمة اقتصادية أو سياسية عرفتها البلاد.