
(كش بريس/ التحرير)ـ
في قرار قضائي لافت يعيد تسليط الضوء على حدود المسؤولية الجنائية ودور “الاستفزاز” كعنصر مخفِّف، نقضت محكمة النقض بتاريخ 25 ماي 2022 القرار الاستئنافي الصادر في الملف الجنائي رقم 21384/5/6/2021، والمتعلق بجناية الإيذاء العمدي المؤدي إلى الموت دون نية القتل. وجاء هذا النقض بسبب إغفال المحكمة الاستئنافية مناقشة حالة الاستفزاز التي دفعت بها المتهمة، وهو ما اعتبرته محكمة النقض نقصاً جوهرياً في التعليل “ينزله منزلة انعدامه”.
خلفية القضية
تفيد معطيات الملف أن المتهمة كانت تتعرض لضغوط عائلية للزواج من الضحية، لكنها رفضت معاشرته. وفي يوم الحادث، لحق بها المجني عليه إلى بيت والديها وأقنعها بالابتعاد لمناقشة الخلاف، ليقوم –بحسب روايتها– بمحاولة مضاجعتها بالقوة. وأثناء مقاومتها سقط الرجل من أعلى الجبل فلقي مصرعه. الدفاع دفع بكون الحادث وليد رد فعل آنٍ على اعتداء جنسي ومحاولة اغتصاب، ما يندرج ضمن مفهوم الاستفزاز وفق الفصل 416 من القانون الجنائي المغربي ومقتضيات القانون 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء.
قراءة محكمة النقض
محكمة النقض شددت على أن المحكمة الاستئنافية أهملت مناقشة هذا الدفع ولم تجب عنه إيجاباً أو سلباً، كما لم تقدم تحليلاً قانونياً يوازن بين الوقائع وظروفها. وأكد القرار أن عنصر الاستفزاز يقتضي وجود فعل مباشر وفوري يُثير في الجاني انفعالاً قوياً يفقده السيطرة على تصرفاته، دون نية مسبقة لإزهاق الروح. وهو عنصر قد يُخفِّض العقوبة أو يُغيّر الوصف الجنائي، إذا ثبت أن رد الفعل جاء نتيجة ضغط نفسي لحظي لا يتسع للتفكير الهادئ أو التدبير المسبق.
أهمية القرار في تطوير الاجتهاد القضائي
هذا الحكم يبرز توجهاً متزايداً لدى محكمة النقض نحو تدقيق معايير العدالة الجنائية، خصوصاً في القضايا التي تتقاطع مع العنف القائم على النوع الاجتماعي. فالقانون رقم 103.13 يفرض على القضاء إيلاء عناية خاصة لضحايا العنف، وضمان عدم تجريمهن حين يكون فعل المقاومة دفاعاً عن سلامتهن الجسدية أو كرامتهن. القرار يذكّر أيضاً بضرورة التفرقة الدقيقة بين:
- القصد الجنائي الخاص لجريمة القتل،
- العنصر المادي للإيذاء المؤدي إلى الموت،
- والظروف المخفِّفة مثل الدفاع الشرعي أو الاستفزاز.
أبعاد أوسع
من زاوية حقوقية، يفتح هذا الاجتهاد نقاشاً حول حماية النساء من العنف الأسري والجنسي، ويدعو المحاكم إلى فحص السياق الاجتماعي والنفسي للجريمة قبل إقرار العقوبة. كما يعيد طرح مسألة سلطة القاضي في تكييف الأفعال بما يراعي مقاصد العدالة لا مجرد النصوص الجامدة، خاصة عندما يكون الفعل الجنائي وليد مقاومة لاعتداء جسيم.
…….
قرار محكمة النقض لا يكتفي بإبطال حكم استئنافي، بل يرسّخ قاعدة مفادها أن إغفال مناقشة الاستفزاز أو الدفاع الشرعي يفرغ الحكم من تعليله القانوني، ويُلزم محاكم الموضوع بإعادة النظر في الوقائع بميزان أكثر دقة. إنه تذكير قوي بأن العدالة الجنائية المغربية مطالَبة دوماً بمواءمة النص مع حماية الكرامة الإنسانية، خصوصاً في قضايا العنف ضد النساء.