
(كش بريس/خاص)ـ
في مفارقةٍ محمّلةٍ بالرمزية والتاريخ، غيّب الموت الكاتب والصحافي البريطاني المخضرم ديفيد هيرست يوم الاثنين 22 سبتمبر 2025، وهو اليوم نفسه الذي أعلنت فيه الحكومة البريطانية اعترافها الرسمي بدولة فلسطين. رحيله بدا وكأنه إشارة كونية إلى إغلاق فصلٍ طويل من السردية الاستعمارية البريطانية، وولادة عهدٍ جديد من الاعتراف بحقّ الفلسطينيين في دولتهم، وهو الحق الذي نذر هيرست نصف قرن لتوثيقه والدفاع عنه بصرامة لا تلين.
بين لحظة الغياب والحدث الكبير
زارته زوجته أمينة وصديقوه في مستشفى بلدة كاركاسون الفرنسية، حيث واجه الموت بوعي هادئ، منشغلًا لا بمرضه، بل بـالواقع السياسي القاتم: انتهاكات إسرائيل في الضفة الغربية، حرب الإبادة في غزة، وصمت الغرب المريب. حتى في ساعاته الأخيرة، لم يتوقف عن تحليل سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي رأى فيه امتدادًا فجًّا لانحياز واشنطن التاريخي لإسرائيل.
مسار مهني يوازي تاريخ الصراع
وُلد هيرست عام 1936 في إنكلترا، ودرس في مدرسة “رغبي” العريقة، ثم أكمل تعليمه في أوكسفورد، قبل أن يُفتن بالمشرق العربي في الجامعة الأمريكية في بيروت. انطلق عام 1963 مراسلًا لصحيفة “ذي غارديان” في الشرق الأوسط، فغطى حروب العرب وإسرائيل، وصعود المقاومة الفلسطينية، وتحوّلات المنطقة حتى 1997. وبعدها واصل النشر في كبريات الصحف العالمية: “كرستيان ساينس مونيتور”، “آيريش تايمز”، “ديلي ستار” اللبنانية وغيرها، محتفظًا بصوت نقدي يزعج الساسة والغرف الخلفية للوبيات الصهيونية.
إرث فكري يتحدى السرديات الرسمية
يُعد كتابه الأشهر “البندقية وغصن الزيتون: جذور الإرهاب في الشرق الأوسط” (1977) نصًا تأسيسيًا لفهم البنية العنيفة للمشروع الصهيوني، إذ وثّق اغتيالات وجرائم منظمة منذ بدايات الحركة الصهيونية. عنوانه استوحاه من خطاب ياسر عرفات أمام الأمم المتحدة عام 1974: “غصن زيتون وبندقية ثائر”. لم يكن الكتاب مجرد تاريخ بل اتهام أخلاقي وسياسي لمشروع استيطاني استعماري. وفي تحديثاته اللاحقة، فضح دور المحافظين الجدد في دفع أمريكا لغزو العراق سنة 2003، مستبقًا كثيرًا من المحللين العرب والغربيين في الربط بين نفوذ اللوبي الصهيوني وسياسات الحرب.
نقد الغرب من الداخل
أعماله الأخرى، مثل “النفط والرأي العام في الشرق الأوسط” و**“حذار من الدول الصغيرة”** (عن لبنان كساحة لصراعات القوى الإقليمية)، جسدت قدرة نادرة على تفكيك تواطؤ الغرب مع أنظمة الاستبداد، وربط الاقتصاد السياسي بالنزاعات الطائفية. لقد كتب بإنكليزية رصينة لكنه تبنّى قضية العرب كقضية عدالة كونية، مقدّمًا نموذجًا لما يمكن أن يكون عليه المثقف الغربي الحر: منغمسًا في ثقافة الآخر، لا يكتفي بالتعاطف، بل يسائل جذور العنف الإمبريالي.
قراءة نقدية في الإرث والدلالة
يختزل رحيل هيرست مفارقة التاريخ البريطاني: فبلاده التي منحت “وعد بلفور” تعترف أخيرًا بفلسطين في اليوم الذي فقدت فيه أحد أبرز شهودها النقديين. لكن إرثه يفتح أيضًا أسئلة صعبة على العرب أنفسهم:
- كيف نحافظ على ذاكرة موثقة بقدر دقته ونحن نعيش في زمن ما بعد الحقيقة؟
- ولماذا ظلّ صوت غربي يكتب عن قضايانا بعمق أكبر مما يفعله كثير من مثقفينا؟
إن ديفيد هيرست لم يكن مجرد صحافي، بل مؤرخًا غير رسمي للجرح الفلسطيني، وناقدًا صلبًا للهيمنة الغربية، ترك وراءه سجلًا يُلزم الأجيال القادمة بالقراءة والمساءلة. برحيله، تخسر الصحافة العالمية شاهدًا نادرًا جمع بين الدقة الميدانية والبصيرة الأخلاقية، بينما يربح التاريخ صفحة ناصعة من النضال بالقلم في وجه السرديات المهيمنة.