
الغريب، أنه ونحن في ذروة ارتقاء فلسطين إلى “الفلسطينزم”، التي تمثل حالة تعيشها البشرية الآن كثورة وعيٍ وفكرٍ ووجدانٍ شرارتها فلسطين، وهدفها نظام عالمي “إنساني” بالمعنى القيمي والأخلاقي للكلمة، وكذلك في ظل ما تشهده الساحة الدولية من حراك يبشر بتغيرات راديكالية في العلاقات الدولية، وفي النظام العالمي ككل، تفرض الحالة الإنسانية الكارثية في غزة وفلسطين، التي تسبب بها العدوان الإسرائيلي، نمطا نكوصيا (تراجعيا) من النقاش بين المثقفين والنخب الفلسطينية والعربية، يختلف عن ذلك المطروح الآن على الساحة العالمية.
ففي حين يحتل موضوع الحق والعدل والإنسانية، والتصدي للعنصرية، وتحرير فلسطين، المساحة الأكبر مما يُثار عالميا، يذهب النقاش محليا لدى شريحة من النخب حول الحق، لا من باب ضرورة التمسك به وطرق تحقيقه، بل من باب “التحذير” من العواقب والتبعات التي تترتب على التمسك به، و”خطورة” التشبث به، وتصل إلى الحديث عن “الانجازات” التي ستتحقق فيما لو تم التخلي عنه. هو نقاش لا يجري على قاعدة التفكير في الطرق المختلفة لاستعادة الحقوق أو شكل مقاومة المحتل، إنما على أساس الموقف من الحق، تشبثا به أو تخليا عنه.
هذا “الهبوط” بالنقاش، أو بجزء منه، بين المثقفين الفلسطينيين (والعرب) أو جزءاً منهم، ليس فقط مؤشرا على هزيمة أو شعور بها لدى بعض هؤلاء، بل مؤشر أيضا على قلة وعي، أو وعي مغلوط، بالمشروع الصهيوني وبطبيعة دولة اسرائيل.
باعتقادي أن الإحساس بالانكسار وضرورة الانكفاء هو أمر موضوعي و”مشروع” في ظروف معينة، بل بالإمكان الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك و”التنازل” (التسامح) مع بعض من الحق، في ظل خلل حاد في موازين القوى، ومساومات تاريخية قد تحافظ على بعض من الحقوق. لكن ذلك لا يجب أن يعني بتاتا الذهاب إلى فهم آخر للحق، لا يكتفي بالتنازل عن جزء منه، بل يذهب إلى فهم مختلف له باعتباره ليس حقاً.
فالحق كقيمة ثابت إنسانياً، وثابت كمفهومٍ فلسفيا، وثابت لاعتبارات الجغرافيا والتاريخ استراتيجيا وموضوعيا. لذلك يبقى حقا في كل الظروف. وهو ملك لكل الأجيال ولا يحق لأحد ولا حتى لجيل أن يعبث به باعتباره ليس حقاً. كما لا يمكن اعتبار المتاح من الحق على أنه الحق، حتى وإن كان هناك ضرورة للقبول به كجزء من الحق لاعتبارات معينة.
ان اختصار الحق بالممكن منه، أو المتاح منه، إضافة إلى كونه مسألة مخالفة للفلسفة والاجتماع والجغرافيا والتاريخ، هو أمر غير تاريخي، يؤدي إلى تثبيت اللحظة والاستسلام لها، ويتغاضى عن التطور، ويصادر حق القادمين فيما بعد، ويحرمهم سلفا ما قد تكون تطلعاتهم ويجردهم من وسائلهم.
إنه كمفهوم حق في كل الحالات، أثناء التشبث به أو التخلي عنه، وأثناء السعي لتجسيده أو حتى في حالة الاستعداد للتنازل عنه، ولا يمكن أن يكف عن كونه كذلك تحت أي اعتبار.
ربما هذا هو السبب الذي يدعو اسرائيل للضغط من أجل تبني صاحب الحق لروايتها. فهي لا تكتفي بالتنازل عن الحق بل بإعادة تعريفه. من هنا يأتي الإصرار الإسرائيلي على تغيير المناهج ومراقبة الإعلام. وهي كذلك لا تكتفي بتوقف المقاومة بل تطلب الإدانة التاريخية لها، لإثبات أن “الحق” الذي تنازل عنه الفلسطينيون وناضلوا من أجله، لم يكن حقا في يوم من الأيام، وأن نضالهم لم يكن نضالا في أي وقت، إنما إرهاب أو شيء من هذا القبيل.
تريد إسرائيل من الفلسطينيين أن يقروا وأن يؤمنوا وأن يتبنوا أن كل ما قاموا به من أجل الحفاظ على حقهم أو من أجل استعادته فيما بعد، لم يكن إلا تجنيا عليهم.
هذا الوضع هو ما وصلت له قلة من المثقفين (والسياسيين) العرب، وأقل منهم من الفلسطينيين تحت شعار إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهذا ما تسعى اسرائيل لإيصاله للنخب والشعوب العربية بكافة الطرق.
لنتجاوز مسألة العلاقة بين موقف هؤلاء والموقف الإسرائيلي، فنحن أمام مشهد يتم فيه فهم المشروع الصهيوني الإمبريالي في المنطقة، وكأنه يعتمد استراتيجيا على موقف الفلسطينيين ومدى “عقلانيتهم” أو عدمها. هؤلاء لا يدركون أن هناك مشروعا تحكمه الاعتبارات والمصالح الكبرى للقوى الاستعمارية، وأن آخر شيء يمكن أن يتأثر به ذلك المشروع هو السلوك الفلسطيني.
لقد كان تأسيس الحركة الصهيونية سابقا على أي سلوك للفلسطينيين، وكذلك كانت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وهيمنة الرأسمال الصهيوني على دوائر المال العالمية، وبالتأكيد ليس لسلوك الفلسطينيين صلة بما تحاول اسرائيل وأمريكا حاليا القيام به لإعادة صياغة الشرق الأوسط من جديد.
ان محاولة هؤلاء المثقفين اعتبار الفلسطينيين السبب في كل ما يجري في المنطقة، هو في أحسن الأحوال سوء فهم لما يجري، وهو، وهذا هو الأهم، إبتعاد عن الرسالة الأساس التي يجب أن يحملها المثقف تجاه شعبه وقضيته.
هذا النقاش المحتدم بين مثقفين فلسطينيين وعرب، حول التشبث بالحق وتبعات التشبث به، يلغي “معقوليته” الفهم الجذري للمشروع الصهيوني، الذي قد يتأثر تكتيكيا ببعض ما يجري في الجانب الفلسطيني، لكنه وكما بدا واضحا بعد الحرب، لديه أهدافه المحددة والمرسومة والثابتة استراتيجيا.
الفلسطينيون هم الضحية الأولى المقصودة ومع سبق الإصرار والترصد للمشروع الصهيوني لأن “قدرهم” (وليس سوء تصرفهم) وضعهم في طريق ذلك المشروع. هذا يعني أنهم مستهدفون جذريا في وجودهم ذاته، وردود أفعالهم قد تؤثر في شكل استهدافهم وإيقاعه، وليس في طبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه ومتطلباته التي يشكل استهداف الفلسطينيين واحدا أساسيا منها.
هذا الوضع يسد الطريق أمام الذين يفهمون السلوك الإسرائيلي كرد فعل على ما يقوم به الفلسطينيون، وبناء عليه يطالبونهم بالتخلي عن الحق، أو جزء منه، أو ربما تجاهله، من أجل “تجنب” العواقب التي تنتج عن التمسك به. لكن ما يجري في الواقع هو إصرار هؤلاء على التنديد – ليس التكتيكي بل الاستراتيجي – بالسلوك الفلسطيني المتشبث بالحق، لذلك تقترب روايتهم من رواية “الطرف الآخر” لحد التطابق، ويبدون بشكل “يتفهم” سلوكه، ويصبون جام غضبهم على الطرف الفلسطيني “المتسبب” بكل ما يجري.
المشكلة أن تلك الدعوات “الفلسطينية والعربية” بالتخلي، المؤقت عند البعض والدائم عند البعض الآخر، عن الحق، سواء اتقاءً لعواقب عدم القيام بذلك في أحسن الأحوال أو لأية أسباب أخرى، رغم كل ما يقوم به اسرائيل، تأتي في وضع تكتشف فيه أوساط متزايدة من البشرية جوهر الصهيونية وأهدافها الكبرى وخطورتها على العالم، وتأخذ فيه الحركة العالمية لوقف العدوان والتوقف عن المجازر بعدا غير مسبوق، والأهم أنها تأخذ الحق الفلسطيني مرتكزا نظريا وأخلاقيا لحركتها.
لقد أدركت فئات متزايدة من النخب العالمية، أن النظر إلى إسرائيل والمقاومة الفلسطينية من نفس زاوية الرؤية هو خطأ فظيع، فالذي ينطبق على دولة معتدية محتلة ومشروع عنصري إبادي، لا ينطبق على من هم تحت الاحتلال. لكن تلك الحقيقة التي أصبحت بديهية في العالم، يذهب عكسها تماما ذلك الجزء من النخبة الفلسطينية والعربية، بتحميلهم الضحية جريمة قاتلها.
مشكلة ذلك المثقف، أن هول الجرائم التي ترتكب بحق الفلسطينيين، تلك التي احدثت صحوة لدى نخب العالم وشعوبه لضرورة الوقوف أمام هذا الوحش الهائج، أحدثت رد فعل مغاير لديه، بضرورة الخضوع له والامتثال لأطماعه وتفهم أفعاله. أيّ مثقف هذا الذي لا يرى من سبيل للتحرر من الضغوط إلا الإمتثال لها وليس البحث عن طريق لرفضها ومقاومتها.
لذلك، وفي الوقت الذي تتفهم نخب العالم وشعوبه وحتى بعض أنظمته الحق الفلسطيني، وتدرك أن عدو الفلسطينيين ما هو إلا عدوٌ للإنسانية، يذهب ذلك المثقف الفلسطيني، ودون أن يعطي أي وزن للتغيرات الكبيرة التي تجري على الساحة الدولية، للعبث بذلك الحق.
مهمة المثقف الفلسطيني الآن، أن يتقدم الصفوف “العالمية” التي أخذت تفهمه وتتفهمه، وتكتشف جوهر عدوّها وعدوّه، لا أن يتخلف عنها. سؤاله الأساس والمباشر هو كيف ينتصر لحقه ولضحاياه، وكيف يفكك الأسس النظرية و”الأخلاقية” لعدوه، ويفضح النظام الدولي الذي عجز عن حماية شعبه، لا أن يقوم بمهمة “المحلل” الذي يُنَظر للهزيمة، ويستخدم الضحايا من أجل ذلك.